إن التدوين الأبجدي والسلم النغمي في منطقة الشرق نال درجة كبيرة من خلال الدراسات التي أجريت في ذلك الوقت، ومنهم "الكندي" الذي استحدث طريقة فذة للإفصاح عن النغمات، كل هذا يحدثنا عنه الدكتور "محمود القطاط" خلال محاضرته في الملتقى الثاني للموسيقا الشرقية.
موقع "eDamascus" حضر المحاضرة التي ألقاها الدكتور "محمود" الذي يقول فيها: «دون التوسع هنا في المسائل المتعلقة بالنظرية السلمية والجموع المستخرجة منها، عند المدارس المتتالية نذكّر بأنه منذ "الكندي" استُحدثت طريقة فذة للإفصاح عن النغمات، وتحديد طبقاتها بتعيين مواضعها على أوتار العود ودساتينه، قوام هذا التدوين الأبجدية العربية بدءاً من حرف الألف المشير إلى أول درجة صوتية منخفضة (مطلق وتر البم = "المفروضة")، ثم يتدرج السلم النغمي في ديوانه صعوداً، حتى حرف اللام المساوي لدرجة الجواب "سبابة المثنى"، فهو تسلسل "لوني" يتألف من اثني عشرة نغمة في الديوان، بينها إثني عشر نصف بعد غير متساوية، يرمز لها بالحروف الإثني عشر الأولى من الأبجدية، كالآتي: "أ – ب – ج – د – هـ - و – ز – ح – ط – ي – ك – ل"، وتكرر الحروف ذاتها لنغمات الذي بالكل الثاني "الديواني الثاني"، مميزاً بينها بلفظ "الأولى" و"الأوسط" و"الحادة"، وبينما ينطلق "الكندي" من نغمة مطلق وتر البم "المفروضة" محتسباً كامل الدرجات الكائنة داخل الديوانين وهي ستة عشر إذا ما استثنينا الدرجات المكررة، يبدأ "اسحق الموصلي" هنا ونظراؤه ممن جمع العلم بالصناعة والعمل، من مطلق "المثنى" وهي عندهم "الاعتماد"، معتبرين بأن "النغم تسعا"، والعاشرة "نغمة الضعف"، أي أنهم يعتمدون نغمات الديوان الواحد، رافضين احتساب "نغم الأضعاف"، وهذا تباين شكلي في الأساس، لأن الانطلاق من المثنى لا ينال من جوهر السلم المستعمل، بقدر ما هو يستجيب إلى مسائل تعبيرية وعملية كتعزيز العزف بين القرار والجواب، وإمكانية الانتقال بين الطبقات، وسهولة تعويض وتر انقطع وقت الحاجة، وإن كنا نرى بأن انتقاد الحسن الكاتب لهذه الطريقة، في محله، حين يقول "ليس الأمر كما ظن "إسحق" ومن تبعه أن في الوترين -يقصد المثنى والزير- من النغم ما يغني عن الجملة، ونسي أنها محاكيات لنغم الحلوق، وقسمت إلى طبقتين طبقة "الصياح" وطبقة "الأسجاح"، وقوبلت كل نغمة حادة بنظيرتها من الثقال حتى كمل اتفاقها وباتت كل واحدة من الأخرى في اللحن"».
إن تحديد نسب الأبعاد اللحنية احتل مساحة كبيرة من بحث كبار منظري الموسيقا منهم "الفارابي والكندي"، فالبحث مثلاً عند "الفارابي" يتجاوز تلك الدساتين ليدخل المساحة الموسيقية الكاملة من تذبذبات موسيقية مستقرة وغيرها من غير المستقرة، وإن البحث في هذا المجال يحتل مساحة كبيرة من التدوين وإلقاء الضوء على تلك المخطوطات الموسيقية الكبيرة التي تتواجد بكثرة في الشرق
يتابع: «ويتّبع "الفارابي" الطريقة ذاتها، غير أنه لا يكرر نفس الحروف في الديوان الثاني، بل يستعمل الحروف التي تليها حسب تسلسلها، "م – ن – س – ع – ف – ص – ق – ر - ش - ت - ث – خ – ذ الخ"، بينما يتخذ "ابن زيلة" توجهاً جديداً تأكدت مع مدرسة "صفي الدين"، وذلك باستعمال هذه الحروف، لا حسب تسلسلها كحروف، بل بمعناها الحسابي كأعداد متوالية، فيبدأ التدوين بالألف ويتواصل مع الحروف العشرة الأولى، أي حتى الياء، ثم تضاف إلى الذي عدده عشرون "الكاف = كا – كب – كج... الخ." وهكذا، ومع المدرسة المنهجية، تواصل وتوضح استعمال الحروف الأبجدية المفردة والمركبة لتسمية نغمات السلم الموسيقى/فالحروف العشرة الأولى "أ ب جـ د هـ و ز ح ط ي" ثم إضافة الحروف التسعة الأولى إلى الحرف العاشر "الياء = يا، يب، يج، يد، يه، يو ، يز ، يح ، يط" ثم إضافتها إلى الحرف الذي عدده عشرون "الكاف = كا، كب، كج...الخ"، ثم إضافتها إلى الحرف الذي عدده ثلاثون "اللام = لا، لب، لج... الخ"، وإضافتها إلى الحرف الذي عدده أربعون "النون = نا، نب، نج، ند... الخ."».
أما فيما يتعلق بالنغم، فيقول: فقد بدأ البحث بداية من "الفارابي"، يتجاوز الدساتين الأساسية، ليشمل كل ما تفرزه الساحة الموسيقية، من أصوات مستقرة وغير مستقرة درجات المجنب والوسطى الخاصة، وتنوعت تبعاً لذلك، السلالم المقترحة، قبل أن توضح وتثبت مع "صفي الدين" ومن جاء بعده، تجزئة الديوان إلى ثماني عشرة نغمة محصورة بينها، سبعة عشر بعداً غير متساوية، ولا بد من الاعتراف أنه بالرغم من كل الجهود المبذولة بقي التنظير في قضايا النغم والسلم الموسيقي يتأرجح بين المثالية والواقعية في محاولة لإرساء مبادئ وقواعد الموسيقا العمليّة في إطار نظريّة مقبولة، هذا التأرجح الذي تسبّب في جملة من التناقضات وحتى بعض الأخطاء، يعود في نظرنا إلى طبيعة هذه الموسيقا التي تتنافى مع الضبط الدقيق والتقنين الصارم، لا شك وأن هذا كان من الدوافع التي أدت في النهاية، إلى التخلي عن دساتين العود، ولا تزال أي محاولة من هذا القبيل في إطار المدرسة الحديثة، تتهاوى أمام تفاصيل الصناعة العمليّة بتعقيداتها وحركيتها وحيويتها على الدوام.
وهذا التأرجح يبرز ضمنياً، في مؤلفات كبار منظري الموسيقا عند محاولتهم تحديد نسب الأبعاد اللحنية، فنراهم يعطون لنفس البعد أكثر من نسبة مما يعسر معه معرفة نوعية البعد المقصود فعلاً في تأليف الأجناس المستعملة عند أرباب الصناعة، وتأكيدا للتنوع الحاصل في اعتماد آلة العود لمعالجة مواضع النغم استغلت على جدول يحوصل مختلف المحاولات المبذولة في هذا المجال "للتوضيح، نستعمل وتراً واحداً على درجة الدو، مع تنويع المقاييس المتعارف عليها، وهي على التوالي: النسب، السنت، الكوما، السافار، تجزئة الوتر، الأصابع والنوتة الحديثة"،
وفي إطار المدرسة المنهجية، تم تجديد وحصر عدد أنواع أبعاد ذي الأربع "العقد الرباعي" وسميت أقسام الطبقة الأولى وكذلك أبعاد ذي الخمس "العقد الخماسي" وسميت أقسام الطبقة الثانية، واستخرجت منها الدوائر اللحنية المذكورة، كما توسع استعمال الحروف المميزة للنغم إلى تدوين موسيقي أبجدي، مستدلاً بها على السير اللحني، وذلك بتوزيعها تحت كلمات النص الغنائي، ووضع عدد النقرات الإيقاعية تحت كل نغمة بالأرقام الهندية، فصارت الحروف، بمثابة النغم والأعداد بمثابة الأزمنة، ومتى علم هذان في لحن وأشير إلى جنس نغمه وإيقاعه، أمكن إدراك الهيئة اللحنية للمقطوعة المدونة، وهكذا قدمت أقدم وثيقة مدونة وصلتنا عن الموسيقا العربية، مثال ذلك "طريقة في الرمل كواشت"».
ويقول الباحث الموسيقي "ريتشارد دمبرل": «إن تحديد نسب الأبعاد اللحنية احتل مساحة كبيرة من بحث كبار منظري الموسيقا منهم "الفارابي والكندي"، فالبحث مثلاً عند "الفارابي" يتجاوز تلك الدساتين ليدخل المساحة الموسيقية الكاملة من تذبذبات موسيقية مستقرة وغيرها من غير المستقرة، وإن البحث في هذا المجال يحتل مساحة كبيرة من التدوين وإلقاء الضوء على تلك المخطوطات الموسيقية الكبيرة التي تتواجد بكثرة في الشرق».