استطاعت الكثير من الصنع والحرف الدمشقية الأصيلة الصمود في وجه الزمن، وذلك لجودتها وجمالها ودقة صانعها، ولعل من أشهر الحرف التي سجلت اسمها مع "دمشق" هي "موزاييك"، حيث تعتبر هذه الحرفة اليوم إحدى الرموز الدمشقية العريقة.
موقع "eSyria" بحث عن ورش "تصنيع الموزاييك" والتي يصل عددها في "دمشق" إلى \40\ ورشة، وجال في "سوق مدحت باشا" بتاريخ "25\11\2010" حيث التقى السائحة "فاطمة البيرقدار" والتي كانت في زيارة لإحدى ورش صناعة "الموزاييك" لترميم صندق "مجوهراتها" المصنوع من الخشب المطعم "بالعظم"، والتي بدأت بالقول: «في الحقيقة، ورثت هذا الصندوق من أمي وهو من الأشياء التي افتخر بالحفاظ عليها، فهي يعتبر اليوم تحفة نادرة وأحد رموز مدينة "دمشق"، وعندما أنظر إلى هذا الصندوق أشعر بقيمة تاريخية كبيرة تشفع له سعره المرتفع».
تناقصت أعداد ورش "صناعة الموزاييك" في دمشق خلال العقد الأول من "الألفية الثالثة"، خاصة أنها تعد من المهن العائلية المتوارثة
السيد "يوسف مدخنة" أحد العاملين في إحدى ورش "تصنيع الموزاييك"، وتحدث عن مصدر كلمة "موزاييك" بالقول: «كلمة "موزاييك" تعود إلى "اليونان" وتعني "آلهة الفنون والجمال"، وتقوم هذه المهنة على تطعيم "الخشب" بجزئيات صغيرة مثل قشر العظم والصدف وحديثاً بدأنا باستخدام خشب "الجوز"، وتتطورت إلى استخدام أنواع جديدة من الخشب مثل "الزان، الورد" وخشب "الجوز" الذي يطعم بالصدف حصراً».
أما عن الزخارف المستخدمة في "صنع الموزاييك" فيقول السيد "يوسف مدخنة": «يقدم الموزاييك تنوعاَ لا متناهياً من الزخارف التي ينطق بها خيال الحرفي والمستمدة من أشكال هندسية متعددة مثل المثلث والمعين ومتوازي الأضلاع، والتي تحفر وتنزل في أنواع الخشب المختلفة، ونحن نقوم بتزيين كافة القطع الخشبية من علب مجوهرات وأثاث وخصوصاَ الكراسي المفردة والتي كثُر الطلب عليها في الآونة الأخيرة لإستخدامها كنوع من الزينة».
تتعد المواد المستخدمة في تزيين القطعة الفنية المسماة بـ"الموزاييك" ولكن أبرزها هو الصدف الذي يضفي على القطع جمالية مميزة، ويقول السيد "يوسف" عن منشأ هذا الصدف: «نقوم باستيراد نوعين من الصدف الطبيعي، "صدف البحري" و"صدف النهري" المستخرج من "نهر الفرات"، ويأتي بثلاثة ألوان هي "الأبيض، الأصفر، الزهري".
ونقوم بعملية نقع الصدف قبل استخدامه حتى يلين قليلاً، وهناك أنواع تأتي لينة بشكل طبيعي، ثم نقوم بتقطيعها أجزاءً صغيرة وتلبيسها للخشب، وهنا تبرز مهارة الحرفي ودقة عمله».
الشاب "طارق حبوباتي" يعمل في أحد متاجر صناعة الموزاييك منذ أكثر من \15\ عام، تحدث عن مراحل صناعة "كراسي الموزاييك" بالقول: «تقسم إلى ثلاثة مراحل، الأولى هي صناعة القطعة الخشبية المطلوبة، والثانية تجهيز قطع "الموزاييك"، وفي النهاية نقوم بعملية الجمع بين الإثنين، فنحن لدينا ورشة تابعة للمتجر تقوم بتفصيل أية قطعة خشبية نطلبها وبحسب نوع الخشب الذي نريد، بعدها نقوم بتجهيز قطع الموزاييك بحسب الرسم الذي نختار، ثم وباستخدام مطرقة يُحفر الخشب وتُثبت عليه قطع الموزاييك بالغراء، وتستغرق العملية كلها حوالي /3/ أو /4/ أيام».
بسبب ارتفاع أسعارها وافتقارها لطابع الراحة لم تعد المفروشات المزينة بـ"الموزاييك" مطلوبة للأثاث المنزلي اليومي، وباتت عنواناً للتراث والفخامة، الشاب "طارق" تحدث عن ذلك بالقول: «انخفض الطلب على منتجاتنا بشكل كبير وأصبحنا نعتمد فيما نصنع على طلب أحد التجار السوريين أو أحد المستوردين من الخارج، الذين ازداد عددهم في الفترة الأخيرة، وقلما يأتي أحد السياح لإقتناء أحدها، حيث يتجهون غالباً إلى شراء علب "موزاييك" الصغيرة، والحقيقة أن مشاركتنا في المعارض كـ "معرض دمشق الدولي" تساهم في زيادة مبيعاتنا وتعريف السياح والزوار بهذه الحرفة العريقة».
«تناقصت أعداد ورش "صناعة الموزاييك" في دمشق خلال العقد الأول من "الألفية الثالثة"، خاصة أنها تعد من المهن العائلية المتوارثة» بهذه الكلمات تحدث السيد "مدخنة" عن واقع "موزاييك" وتابع بالقول: «ورثت المهنة أنا واخوتي عن أبي الذي كان قد ورثها بدوره عن أبيه، ولكن من غير المحتمل أن يكمل أولادي في نفس المهنة نتيجة التغيرات التي حدثت على الحياة المعاصرة وصعوبة الظروف العامة من قلة الأخشاب وضعف المردود المادي لها».
الجدير بالذكر أن حرفة أخرى ذات صلة بالموزاييك قد ظهرت منذ فترة قريبة وهي ترميم منتجات "الموزاييك"، وهي حرفة لا تقل صعوبة ومهارة عن عملية التصنيع، لأنها تحتاج إلى دقة وإتقان في ترميم منتجات قد يصل عمرها إلى المئة عام، باعتبار أن الموزاييك الأصلي المصنوع من العظم.