"ماجد رشيد العويد" كاتب قصة قصيرة, ومن المخلصين لفن القصة, أبرز ثيمة تميز أعماله القصصية، وتجذب القارئ نحوها, هي استفادته القصوى من تقنيات القص والابتعاد عن التقريرية بشكل لافت للنظر, بالإضافة إلى كون قصصه تنتمي إلى مصاف الأدب الرفيع, وسأحاول من خلال قراءة في مجموعته القصصية "الغمام"، تسليط الضوء على بعض مفاتيح هذه المجموعة، وتقنياتها القصصية.

القصة الأولى: استفاد فيها "ماجد رشيد العويد" من تقنيات "ألف ليلة وليلة" الحكائية الحلزونية, وجاءت تحت عنوان "الليلة الثانية بعد الألف", وفيها عمل على الرمز انطلاقاً من العنوان الذي ترمز به القصة، إلى أن حكايات "ألف ليلة وليلة" مستمرة إلى ما شاء الله، وليست من الماضي السحيق في القدم, وهذا ما يصرح به العنوان، ومن الوهلة الأولى لقراءته, ويستمر "ماجد العويد" بالرمز ليطرح قضية إنسانية وهي قضية العدل, وهنا يحسب له أنسنته لأدبه, فالعدل من خلال منظور العويد يجب أن يكون سائداً في الدنيا، وعدل الآخرة لا يجب أن يكون ذريعة للسكوت عن الحق في الدنيا.

لعل الشعر أفسده. قال لرفيقيه: سأكتب خطاباً لزوجتي. زوجتي الميتة.. عصرنا على حاله مجدب فقير. ما أزال ما كنا عليه من فقر ورثاثة. ستعلمين هناك, وقد خرجت من القبر إلى الفضاء, أنه مرت أزمنة, كان السخاء من سماتها

ص/9/: «قالت شهرزاد:

  • كيف حالك اليوم يا مولاي؟.. إن الليلة تشرق بالنجوم ولعل حكاية الرجل الذي مات في البرزخ تعطيك أس المعنى وجوهر الختام.
  • ماجد العويد

    قال شهريار:

    غلاف المجموعة

  • فإلي شهرزاد بالزاد, فإن العقل أجوف وإنه كذلك حتى يمتلئ بحكاية من حكاياتك.

  • إذن فاعلم يا مولاي أنه لما كان ذلك الزمان, حلَّ على العباد رجل أفاق, لا يخشى الله، فأثار الفتن, وفرق بين الناس, اغتصب المال والدور والأرض, وروع الأهالي».

  • وعبر هذه القصة يطرح "العويد" فكرة حداثية عن طريق تقنية كلاسيكية، وهذا ما يصطلح عليه "ما فوق كلاسيكي".

    القصة الثانية: جاءت تحت عنوان "طيبة", وأكثر ما يميز هذه القصة النفحة الصوفية التي تتمتع بها, فالحوار فيها فلسفي رشيق, بعيد أشد البعد عن التقريرية, والاستفادة القصوى من تقنيات القص, وهذا يؤدي بك إلى تمكن لغوي وثقافي وفكري لكاتبها, وفي هذه القصة يريد أن يوصل من خلالها "العويد" رسائل عدة عن وجوب الحب والنقاء والصدق الإنساني.

    ص/38/: «قال: هم ليسوا كذلك, نحن موتى, ليس الموت في فناء الجسد، وربما ليس الموت في روح تغادره، وربما لا أدري ما الموت؟ لكنهم ليسوا موتى هم أحياء في لبوس قاهر من الصمت, ومن التمتع بجلد المحارب الأصيل, ثم أنت بالموت تتأصل، وتتأكد من كونك إنساناً عاش حياة وجسه التراب, وانتقل ربما إلى فناء».

    القصة الثالثة: "المضغة"، ويصبو الكاتب هنا إلى فكرة المساواة بين الناس, وأن العدل والمساواة هما اللذان يجب أن يكونا مقياس تفوق إنسان على آخر، لنصل إلى مجتمع مدني حداثي يحكمه المنطق والعلم بالمطلق.

    ص /67/: «سعت جاهدة كي تثقب جدران الرحم المعتم. كانت محاولاتها تذهب سدى, فلا خروج ولا انبعاث قبل الأوان, ورغم يقينها من هذا فقد كانت مضغة متمردة, اعتقدت جازمة أنها لا يبليها إلا الموت، وأنها خالدة، وأنها برغم ما سيكون من القرون لن تنقلب, لا الآن ولا بعد اكتمال التشكل, إلى رميم وستتفوق على أقرانها بالعبقرية النادرة، والصدر المنشرح، والنفس الهادئة التواقة.. التواقة».

    القصة الرابعة: وجاءت المجموعة تحمل عنوانها "الغمام", ويقصد القاص بالغمام، النوائب التي تمر على الأمة العربية منذ أمد طويل, ويدعو إلى عودة التاريخ المشرق للعرب أيام الدولة الأموية والعباسية, والاستفادة من عبر التاريخ, فهو إنسان مولع بالتاريخ, ويريد من خلال هذه القصة أن يوصل الرؤى الثقافية، والفكرية التي يؤمن بها, وهنا تحسب له توظيف اللغة فكرياً لتكون الحامل الشرعي لمشروعه الثقافي والفكري.

    ص /90/: «غمامة تلو الغمامة. عري من الغمام الزاحف أمام عيني. التحمت نهاية الأفق بمبتدأ الخلاء العلوي. ازدانت الأرض بالبرد. من نهاية الخلاء العلوي تراءى لي يتهادى مسربلاً بنعيم النفس التواقة إلى الالتئام. ومنذ أن حط الغراب على الأرض ثم ارتفع طائراً بالأفعى التي ظل فحيحها في أذني, والغمام يتكاثف والإحساس في داخلي ينمو بأنه ملك متوج بخلاصة الحكمة وفن الشعر.

    لما سألته عن المأمون قال لي قم بمناجاته, ثم ادفع بصدى النجوى إلى أعلى».

    القصة الخامسة: بعنوان "مزاد"، ويصبو من خلالها "العويد" إلى وأد حالة الفقر التي يعيشها الأدباء, وافتعال الأدب رافضاً ما آل إليه الحال, فالأدب حالة فكرية، وإنسانية أرقى من أن تكون وسيلة رخيصة للتكسب.

    ص/95/: «لعل الشعر أفسده. قال لرفيقيه: سأكتب خطاباً لزوجتي.

    زوجتي الميتة.. عصرنا على حاله مجدب فقير. ما أزال ما كنا عليه من فقر ورثاثة. ستعلمين هناك, وقد خرجت من القبر إلى الفضاء, أنه مرت أزمنة, كان السخاء من سماتها».

    القصة السادسة: "موت مصطفى سعيد" وهي محاكاة لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، ذائعة الصيت للأديب السوداني "الطيب صالح", وأعتقد أنها تصلح مقالة أكثر منها قصة, ولا أدري لماذا عمد "العويد" إلى إقحامها في المجموعة, فهي تشبه أن تكون اختصاراً فكرياً مكثفاً لفكرة الرواية, وقد ظهرت في المجموعة وكأنها جسم غريب عنه.

    ص /109/: «عندما بدأت العاصفة انطلقت نهايتي، أو ربما بدايتي كنت "يزدجرد" المعاصر. قدمت لها مفاتيحي. أردت استباحتها فإذا بي أستباح وتستباح معي قرون. أنت الآن تعلم كل شيء, وليس من ضير في اقترابك مني. هاأنذا أضع بين يديك كل أوراقي, لا بد أن تتجاوز ما لم أستطع تجاوزه. لم أقتل في الحقيقة "جين مورس"».

    سأنطلق في قراءة هذه المجموعة من محاكاة الأسلوب الإنكليزي في النقد, من سؤالين جوهريين يعمد النقاد الإنكليز على طرحهما أمام كل نص أدبي.

    السؤال الأول: ما هي الآلية التي اعتمد عليها القاص في المجموعة القصصية؟

    إن الآلية التي اعتمد عليها "العويد" في هذه المجموعة, هي الاتكاء على تقنيات السرد في "ألف ليلة وليلة"، وهو اتكاء ناجح، وخلع كلمة ناجح على المجموعة ليس اعتباطياً أو عشوائياً, إنما بناء على منهجية تعتمد على ما حققته النصوص من أثر, فنصوصه محملة بالرمز وشفافة، وتحمل فكراً يدل على مخزون ثقافي رفيع, وابتعاده عن التقريرية بشكل ملفت للنظر, فالقصة نوع مشاكس تصرخ بك، تطالبك بالتكثيف والابتعاد عن الثرثرة و"الفذلاكات" اللغوية، التي لا طائل منها, و"العويد" نجح على صعيد هذه المتطلبات, مما جعل نصوصه القصصية تتمتع بهذه الفنية التي ترتقي بها إلى مصاف الأدب القصصي الرفيع.

    والسؤال الثاني: ما قيمة هذه المجموعة مقارنة بالمجموعات القصصية الأخرى؟

    الإجابة عن هذا السؤال ملغومة, وتحتاج إلى ناقد من الطراز الرفيع، ولست أنا المبتدئ, ولكني سأحاول الإجابة عنه قدر المستطاع .

    وسأنطلق من نقطة تقول بأن "الرقة" عاصمة القصة القصيرة في سورية, ومن هنا يجب مقارنة أعمال "العويد" بمحيطها القصصي, ومن خلال مقارنة موضوعية نجد أن أعمال" العويد" لا تقل أهمية ومكانة عن أعمال معاصريه من كتاب القصة، أمثال "إبراهيم الخليل"، و"خليل جاسم الحميدي"، و"محمد جاسم الحميدي", وإن لم تكن أعماله تماثل أعمالهم, إذ لكل منهم خصوصية تميز نتاجه عن نتاج القاصين الآخرين, بالإضافة إلى هذا وذاك فهي تحمل أهم سمات القص في التسعينيات من القرن المنصرم, والذي ساهم "العويد" بشكل واضح من خلال نصوصه، وكتابه القصصي المشترك في ترسيخ سمات القص في التسعينيات.

    وفي النهاية لا يسعني إلا أن أدعو القراء إلى قراءة هذه المجموعة الشيقة ذات الغلاف الجميل, والتي ستحملكم إلى عوالم المؤانسة والإمتاع.