طرح الدكتور أحمد البرقاوي" بحضور أشخاصٍ لهم باع في قراءة التاريخ الفلسطيني في "مكتبة الأسد" بتاريخ 15/7/2009، مفهوم حمل عنوان "فلسفة القدس" وذلك ضمن سلسلة المحاضرات التي اقيمت بمبادرة من مركز "تريم" للعمارة والتراث ضمن "أربعاء تريم" الثقافي، وتزامناً مع بداية إعلان "القدس عاصمة للثقافة العربية"، ودار الحوار حول القدس ومفهومها السياسي والفلسفي، وهنا بعض ماتحدث عنه الدكتور "البرقاوي":

«إن القدس فلسفة للمعنى، فلسفة في المعنى الكلي لوحدة المكان والزمان وحدة القضية والشعب وحدة التاريخ والمصير، ولهذا فالصراع بيننا وبين عدونا ليس إلا صراعاً بين المعنى الحقيقي للقدس ودلالته بوصفه حقاً، وبين سلب المعنى من قبل عدوٍ لا يمتلك الحق، فنحن نؤسس القدس على معنى الحق وكليته لنلغي ذلك القيل الذائف بأن الصراع بين حقين، فالحق يضاد الحق، الصراع لا يقوم إلا بين الحق واللاحق، بين الحق والباطل، غير أن الحق وقد أصبح مستباحاً، وأصبح كل شيء مستباحاً الأرض، الثقافة، المعنى، الشعوب، والحرية».

القدس مرآتنا وهي التي تعكس صورتنا، القدس محتلة تعكس قبحنا وعبثنا وفقرنا، القدس محررة تعكس قوتنا وثراءنا، القدس تصنعنا، إن استعادة القدس قصة في الصراع من أجل حريتها أي من أجل حريتنا ينقلها هذا المعنى إلى مدخل لحرية العرب أجمعين، القدس في حاضرها معيار لوجودنا

أكمل الدكتور "البرقاوي" حديثه وفي عينيه تحدٍ واضح لتحرير القدس بفلسفته: «إنني اليوم أريد أن أحرر القدس من سياسة الضعفاء وغرور الأقوياء، كي أؤسس السياسة على فلسفة للقدس، كي تستعيد السياسة ماهيتها بوصفها الطريق لعملية التحرير، في فلسفة القدس تصبح القدس مؤسسة على فلسفة الحق، فالصفة الحقيقية للقدس أنها عربية، من مدن الشام التي لم تكن يوماً إلا موطناً للعرب لم تعرف الشام يوماً نزوحاً للعرب منها أو لجوءاً إلى بيتها رغم حكم الأقوياء أحياناً عليها، لذلك إن علاقة العرب بالشام ليست علاقة جديدة ولاتبدأ بدخول "خالد" إلى دمشق، الشام آرامية، غسانية، نبطية، وفي ظني أن قريشاً نفسها في ثقافتها وأصلها وفصلها شامية بامتياز، ولهذا كانت علاقتها بالقدس علاقة بوطنٍ وبطريقٍ نحو الوعي، بالتالي إن عروبة القدس مستمرة عبر آلاف السنين ولم تخرج يوماً خارج الوجدان، مدينة الوجدان تعني أن المدينة أخذت معنى الفكرة ومعنى الحياة الروحية التي لاتستقيم إلا بحضور "القدس" مركزاً لها في هذه الحياة».

من الحضور

كلمات "البرقاوي" كانت عميقة تبحث عن معنى واضح لفهمنا لمعنى القدس فلسفياً، وهنا يقول: «"القدس" عربية تؤسس لإسلاميتها ومسيحيتها، ومعنى ذلك أن الروح العربية قد كونت "القدس" وأنشأتها فصارت "القدس" قادرة أن تعيد إنتاج نفسها بكل أشكال الوعي العربي، حيث يؤمن "النبي العربي" بأن قبلته القدس، لماذا؟ هل لأنها مدينة المسيح المصلوب بأحدى ساحاتها! ربما، لكن "بيت المقدس" أو "القدس" هي التعيّن الواقعي للمقدس عند العرب، ربما أكثر من ذلك الاسم هنا دال على شكل الوعي فإذا كانت "القدس" هي تعيّن وعي المقدس عربياً، ولمّا كان "المقدس" لازمنياً ومستمراً عبر التاريخ فهي إذاً في حضورها في الوجدان لاتعني سوى أن الوجدان مملوء بالمقدس الذي هو "القدس"».

ترى مالذي حمل "النبي العربي" على رواية الإسراء والمعراج لتكون من"القدس" وليس من المبكى، كان سؤالاً طرحه "البرقاوي" ليبحر فيه بكلماته: «إن المعنى العميق للإسراء والمعراج بوصفها تجربة السمو إلى المطلق يوجد في المكانة التي تحتلها "القدس" لدى العرب قبل وبعد الإسلام لهذا كانت القبلة الأولى، وبهذا "فالقدس" جزء من تكوين الوعي العربي في بلاد الشرق خاصة في "فلسطين"، كما هو تأكيد لوحدة التجربة الإمانية المسيحية والإسلامية، فمكان قيامة المسيح هو مكان صعود الرسول الكريم، فالمكان هنا أصبح مكاناً واحداً، وهما اختصار المسافة إلى المطلق، وعبر "المبكى" و"القدس" يكون الإله واحداً وهو الذي يوحد البشر المعتقدين به، بمعزل عن أشكال التقرب إليه ولكن في "القدس" تتوحد التجربة وتغدو "القدس" وحدة المسيحي والمسلم».

ريم عبد الغني

يكمل "البرقاوي": «هي أيضاً المرة الأولى التي يعلن "نبي" أنه صار قرب أو أدنى من الإله في "القدس"، وبالتالي المسيحي والمسلم يستعيدان تجربة السمو والارتقاء والتوحد في المطلق الإله، يؤسسان لأخلاق مشتركة إلى أخلاق السمو. إن حائط البراق هذا الذي يوحي بالسمو يتحول عند المعتقدين بالإله إلى ضيقٍ تافهٍ محدود الوظيفة اتجاه قوم من الأقوام إلى حائط المبكى، فدلالة حائط المبكى استعادة لكرهٍ لأقوام غابرة عاشت في هذه المدينة، قد يغلق المسيحي والمسلم الدمع كعزة وجدانية وهو يستعيد تجربة السمو، لكن الدمع الذي يغلقه اليهودي فهو دمع الحقد الذي يعلن لابد للآخر أن يموت».

هل للقدس فلسفة، والارتقاء هو فلسفة للحياة هنا يتابع "البرقاوي": «في الارتقاء فلسفة الحياة، في الحقد فلسفة الموت، إنها المرة الوحيدة في تاريخ الفتح يأتي فيها أمير المنتصرين إلى مدينة ليتسلم مفاتيحها، ويكتب لأهلها الساكنين فيها عقدة، ويشهد على ذلك "عمر بن العاص"،و"معاوية بن أبي سفيان" و"عبدالرحمن بن عوف" و"خالد بن الوليد"، فهذه الخصوصية "للقدس" لايتفهمها من ينظرون إليها نظرة الخارجين، لايتفهمون أنها فلسفة للحياة، بل قل "القدس" فلسفة في الإله الحميم، فلسفة كبرياء المنتصر وتواضعه، إنها فلسفة للعروبة أولاً، بل إنها فلسفة تتعلم بتاريخ عربي وإسلامي فإنها مدينتنا، ولأنها مكان للارتقاء فهي مدينة المعنى لجميع من يتوسل الارتقاء إلى المعنى، فإذاً القدس في معناها هذا ليست مدينة عربية، بل قل هي قضية فلسطينية لأنها عربية وهي قضية عربية لأنها فلسطينية، ولهذا فإن أي قولٍ يردده بعض الساسة بأن الشأن الفلسطيني شأن فلسطيني كما يختاره الفلسطينييون نوافق عليه، قول يشي بموت معنى القدس في نفوس القائلين، وإعلان استقالة من صناعة التاريخ، لا معنى لفلسطينية القدس إلا تأسيساً لمعناها العربي، بل إن الفلسطيني البائس عن وحدته من أجل قضية لا يمكن أن يؤسس وحدته إلا على فلسفة للقدس بوصفها فلسفة القضية الكل».

يضيف "البرقاوي": «إنها فلسفة في السمو والمعنى والمقدس والتسامح بل فلسفة في المقدس المتسامح فإنها لا يمكن أن تخضع لحل سياسي فيه مساومة، فإما أن تكون القدس المعنى وإما لا، لأن معنى القدس الذي لا يقبل القسمة أبداً، لأن القدس وقد أخذت صورتها الكلية لم يعد بالإمكان أن نلبسها مناقضة لماهيتها، إنها لا تقع في مكان جغرافي محدد كما قلت لكم إن موقعها الأصلي في الوجدان، المدينة التي مكانها في الوجدان والوجدان الذي يسعى أن يسير في المدينة حراً لا يستطيع أن يقبل المدينة إلا حرة، ولهذا هل يمكن أن نؤسس السياسة على فلسفة كهذه للقدس، بل إن القدس تختصر فلسفة الحرية، إنه المدخل الواقعي الوحيد للنظر إلى القدس ومصيره، ولهذا أيضاً إن تحرير القدس المؤسس على فلسفة كهذه واقعية للقدس هو الحل الواقعي لقضية فلسطين».

وأنهى الدكتور والفيلسوف "أحمد البرقاوي" محاضرته بقوله: «القدس مرآتنا وهي التي تعكس صورتنا، القدس محتلة تعكس قبحنا وعبثنا وفقرنا، القدس محررة تعكس قوتنا وثراءنا، القدس تصنعنا، إن استعادة القدس قصة في الصراع من أجل حريتها أي من أجل حريتنا ينقلها هذا المعنى إلى مدخل لحرية العرب أجمعين، القدس في حاضرها معيار لوجودنا».