يحلم بأن ينهض النهر بين كفيه، فينبعث قلمه جسراً وجسده ساقية تروي أطراف المدينة البعيدة، إلا أنها ليست بالبعيدة فعلاً، فالمسافات في حقيقتها لا تقاس للمشتاق بالأمتار، بل بزمن الوصول. وهو النهر يأسره من حيث يدري ولا يدري فيردد: «عارٍ.. لا يشكو خطواً/ لا يتلعثم فيه الركض/ لا تثنيه خيول السّهو/ إذا يستجدي ملء الحرب نهوداً/ تفجؤه حين الغفو الهالك كلُّ الأسماك».
موقع eSyria التقى الشاعر "بسام علواني" عائداً من "قطر" بتاريخ 24 تموز 2009، بينه وبين الحلم ضفتان ويخطو إلى عالم بعيد وقريب في آن.
** الذي ينهض في يديه النهر هو شاعر مغترب بكل ما تحمل كلمة الاغتراب من معاني، اغتراب نفسي وجودي بيئي أو جغرافي زماني مكاني، هو هذا الشاعر الذي ينظر إلى النهر فيراه بكل رموزه سواء دلَّ على الخصب أو الفضاء أو الماء المكون الأساسي للحياة، هذا النهر حين ينهض في يد هذا الشاعر نستطيع أن نقول أن القصيدة رهن الاعتقال.
** نهوض النهر دلالة إلى الانبعاث الجديد خارج الإطار الزمكني، لا يوجد شاعر لا يطمح إلى الانبعاث وإلى الولادة، قد يولد الشاعر مع كل قصيدة يكتبها من جديد، كل قصيدة هي مرحلة يتمنى الشاعر فيها أن تكون خصبة.
** هذا السؤال مقدمته أوسع من إجابته، أنت تريد أن تصل منه إلى -أين أنا-، إلا أني أريد أن أقف على ما يسمى ما قبل الحداثة وبعد الحداثة وهذه التسميات التي لا أعرف من يطلقها؛ هناك قصيدة في مكان ما، إذا كانت الحداثة هي التمرد أو العبور على جسد القصيدة الكلاسيكية فقد تم ذلك منذ أكثر من سبعين عاماً حين تم ذلك التطور، وإذا كان ما بعد الحداثة يقصد به قصيدة النثر فبذلك نكون قد ظلمنا قصيدة النثر كثيراً، لأني أؤمن أنها موجودة منذ بداية تشكل الأدب فينا، وإلا كيف نستطيع فرز النص القرآني مثلاً، النص القرآني هو نثر وليس شعراً حتماً ولم يطلق عليه اسم قصيدة، نحن أمام نص، هناك نصوص كلاسيكية كثيرة لكن مضمونها حداثي كتلك التي نجدها عند "عبد الله البردوني" مثلاً، وهناك ما فاق قصيدة النثر حداثة موجودة في طي كتب "محمود درويش" و"نزار قباني" و"أدونيس" يوجد نصوص وإشراقات بنصوص فاقت الحداثة التي كتب عنها النقاد، أنا عبرت بولادة طبيعية وشرعية من القصيدة الكلاسيكية التي بدأت بكتابتها وأنا في الثامنة عشرة من عمري، إلى قصيدة التفعيلة، ومنذ أربع سنوات وأنا أحلم بقصيدة النثر والوصول إليها، لا أعلم إن كنت استطعت بالفعل كتابتها وأرضيت كتاب قصيدة النثر مع أني لا أعنى بهم، ولكني أعنى بأن ما يكتبه "بسام علواني" حالياً هو قصيدة النثر، أما عن مشروعي الخاص في المستقبل فهو مشروع أطلقت عليه اسم "الملصقات" وهي عبارة عن قصائد قصيرة جداً جداً جداً، وتنشر في مجموعة شعرية على شكل شريط لاصق، نظراً لانهماك الكائن الإنساني بظروف حياته فهو لن يجد وقتاً لقراءة نص طويل، تستطيع أنت إذا أعجبت بنص أن تلصقه على مرآتك أو على "تابلو" السيارة، كتبت من هذا النمط حوالي /25/ نصاً أذكر منهم /الحديقة نائمة في الوردة، الوردة لا تنام/، هذا النص بهذه الكثافة أتركك لتسرح إلى المعاني التي يمكن أن تصطادها، وقلت أيضاً /الصياد الذي يقتل العصافير، قتلته الزقزقة/، من خلال هذا المشروع أطمح دائماً للوصول إلى راحة المتلقي.
** انتقلت بي التجربة من المفردة القاسية المتحجرة نوعاً ما والمنحوتة ربما إلى قصيدة تنعم بدفء أبوي، إذا قارنت ما بين قصائدي في المجموعة الأولى والأخيرة ستجد أن هناك مسافات على صعيد البنية الترتيبية للنص والاستطراد في معرض الصورة والتخلي عن أوزان الخليل والتخلي عن التفعيلة إلى قصيدة نثر لا أستطيع الحكم عليها الآن، وآمل أن أتلقى ردود فعل قاسية تجاه تلك النصوص، أنا خرجت إلى الدوحة وبجعبتي ثلاث مجموعات شعرية، كتبت الرابعة والخامسة هناك وأصدرت الخامسة المشتركة مع جماعة "قلق"، ما يهمني هو أن استجابة المتلقي لما أكتب الآن هي أوسع وأكبر مما كتبت بالأمس، هذا يعني أن هناك طراوة وريشة لينة مرنة تستطيع التلوي في أعماق المتلقي الآن، وهي من نتاج الغربة والاحتكاك مع الشعراء المتنوعين الذين عرفتهم وخاصة مع جماعة "قلق".
** هذا السؤال أجاب عليه الكثير من الأدباء سابقاً وكان لكل منهم رؤيته الخاصة فيه، في الشعر لا يوجد من يقود ومن يقاد، بل يوجد حالة يعيشها الشاعر، فالقصيدة هي حالة أو ومضة لا تستطيع إلقاء القبض عليها، بل هي من تلقي القبض عليك في كل الأحوال، بغض النظر عن جنسيتها وجنسها، فالقصيدة بالرغم من أنها مفردة مؤنثة إلا أنني ميزت بين نوعين من القصائد فقلت أن هناك قصيدة أنثوية تستحوذ على كافة رؤاك وتنبعث منك إليك، هي الحلم الذي تسعى وراءه وتحاول أن تلقي القبض عليه، وتفشل فتحاول من جديد، ومتى ألقيت القبض عليه فشلت كشاعر، أما القصيدة الذكورية فهي التي يبرز الشاعر ذاته فيها، هذه الذات المتمردة التي يغلب عليها النظم وكتابة النص، وليس النص الذي يكتب، لذلك أعود فأقول لا يوجد شاعر يقود نصاً أو نص يقود شاعراً، بل قل هي حالة يتمازج فيها النص والشاعر والكلمة.