لم تكد تمضي فترة وجيزة على الزلزال الذي ضرب المنطقة، وما خلفه من دمار وأوجاع، حتى حلّ شهر رمضان المبارك في مدينة "حلب" ليعيد ذكريات أيام خلت، وليعود معه أيضاً المزيد من العمل الإنساني حيث سارع الحلبيون إلى لملمة جراحهم ومساندة بعضهم البعض بالتوازي مع مسارعة الجمعيات والمنظمات الخيرية بتقديم وجبات الإفطار والمياه والتمور والمواد الغذائية.

وفي الجانب الآخر نشطت الكثير من المبادرات الفردية من الميسورين ورجال الأعمال الذين تبرعوا و تكفلوا بتقديم الدعم المادي والكثير من وجبات الإفطار والسحور للمنكوبين والفقراء.

لا يهم نوعية الطعام بقدر ما يهمنا البهجة باستقبال هذا الشهر الفضيل، ثم تتوالى لقاءات أفراد عائلتنا طوال أيام شهر رمضان المبارك بالتناوب فيما بيننا

رونق خاص

يتحدث الأديب "كمال استانبولي" من "حي أقيول" عن رأيه في الفوارق بين رمضان الحالي وما سبقه ويقول: «مهما كانت الظروف التي نمر بها قاسية وصعبة يبقى لقدوم وأيام شهر رمضان عند الحلبيين رونق خاص وبهجة وفرحة ومتعة لا تعدلها متعة، حيث تبدأ الطقوس منذ ليلة إعلان بدء الشهر حيث ينطلق الجميع لأداء صلاة التراويح التي تستمر طوال الشهر، وهناك الكثير من الطقوس الجميلة والقديمة والتي لازال يتمسكون بها، ففي اليوم الأول يحرص الأب على دعوة كل أبنائه وبناته المتزوجين على الإفطار عنده، ثم تتوالى العزائم ما بين الإخوة والأخوات والأقرباء والجيران».

أنواع مختلفة من الأطعمة الرمضانية في مدينة حلب.

وفي هذا الشهر يقول "استانبولي" تتم الكثير المصالحات والمسامحات بين المتخاصمين، ويتم السؤال عن أحوال فقراء كل حي وضرورة تفقدهم وعدم نسيانهم وتقديم المساعدات ومد يد العون لهم، كما ويبرع الحلبيون في إعداد الطبخات من كبب ومحاشي ويبرق وحلويات، ومن أهم طقوس شهر رمضان عن الحلبيين صلة الرحم والتزاور بين الأهل والأقرباء.

وعند سؤاله عن أحوال وتأثر بعض الحلبيين بالأزمة المنصرمة مع وقوع الزلزال يقول "استانبولي": «لاشك هناك عدد كبير من العوائل الحلبية تأثرت كثيراً بمنعكسات الأزمة على مدار عشر سنوات الأخيرة، ومن بعدها الزلزال الأخير يضاف إليهما الغلاء الفاحش، كل ذلك أضعف من قدرتهم المادية على مجابهة الحال، فعزفوا عن شراء الكثير من الحاجيات والأطعمة الرئيسية من اللحوم والزيوت والحلويات وشراء الملابس».

شهادة حلبية متنوعة عن طقوس وعادات شهر رمضان الاديب كمال استانبولي وضياء موصللي وأخرين .

رمضان كريم

من المبادرات "رمضان يجمعنا "

العامل "مصطفى الشهابي" يقول: «تأثر منزل عائلتنا مثل باقي المنازل بأضرار الزلزال الذي أصاب أحياء المدينة "حلب" القديمة، قمنا بإصلاح وتدعيم الأضرار التي أصابتنا، ومن عاداتنا التي لا تتبدل في أول يوم من شهر رمضان المبارك اجتماع كل أفراد عائلتنا بمنزل والدي».

ويضيف: «لا يهم نوعية الطعام بقدر ما يهمنا البهجة باستقبال هذا الشهر الفضيل، ثم تتوالى لقاءات أفراد عائلتنا طوال أيام شهر رمضان المبارك بالتناوب فيما بيننا».

أما العامل المتقاعد "ضياء موصللي" فيقول: «يشتهر أهالي مدينة "حلب" بطقوسهم وعاداتهم الجميلة باستقبال شهر رمضان المبارك، وتستمر تلك العادات طوال هذا الشهر الفضيل وتزدحم الأسواق النهارية والمسائية، وتبرع السيدات الحلبيات في إعداد وتحضير أشهى المقبلات والمأكولات والحلويات وكل حسب مقدرته وظروفه، وما يميز فضائل هذا الشهر الكريم (السكب) بين الإخوة والأقارب والجيران، ومن العادات التي فيها الكثير من الاحترام تجاه الفقراء أن الرجل الميسور يحرص على إخفاء مشترياته الغذائية عن أعين جواره بكيس أسود، ومن أجمل العادات السهرات والحكايات، وهناك مسحر رمضان الذي يدور بين الأحياء وهو ممسكاً بعصاه وطبلته ومنشداً القصائد النبوية، ويوقظ النائمين بالاسم بكلمة (يا نايم وحد الدايم) ومع مروره بين المنازل تنهال عليه مختلف أطعمة السحور».

ويختم بالقول: «لاشك أن الزلزال مع غلاء أسعار المواد الغذائية، قد بدل الكثير من الأمور وخاصة بنوعية وقيمة الوجبات الغذائية، وأهالي "حلب" لديهم القدرة والحنكة على التأقلم مع الصعاب مهما اشتدت وتدبير أمورهم».

جبر الخواطر

العم "حمدي قواف" يستذكر عادات وطقوس شهر رمضان المبارك التي يتمسك بها أبناء مدينة "حلب" طوال العقود الماضية من تسامح ومحبة وكرم وأخلاق والتزام، ووصفها بمدرسة الأخلاق الحميدة، ومن أهمها تفقد الناس والجوار أحوال الفقراء والمساكين وعدم تركهم في عوز ومدهم بالمال والطعام.

ويقول: «تميز الحلبيون بإعداد موائد الإفطار والحلويات، وفي وقتنا الحالي ونتيجة الأزمة ومن بعده الزلزال تبدلت الكثير من الأمور والمفاهيم ولعب الوضع الاقتصادي دوراً مهماً في الاستغناء عن كثير من الأطعمة الضرورية، وفي السوق تجد كل أصناف الطعام ولا نستطيع شراءها وينطبق علينا المثل القائل (العين بصيرة واليد قصيرة)».

مبادرات خيرية

في مدينة "حلب" هناك بعض الجمعيات التي تعمل على تقديم وجبات جاهزة للصائمين والفقراء، الذين بدى على معظمهم مظاهر التعب وهم من العمال والكبار بالسن وبعض النساء.

الطباخ "محمد أمين عطار" أحد الذين يعملون بإحدى الجمعيات التي تعد وجبات الطعام الجاهزة للصائمين، أعرب عن سعادته بهذا العمل الإنساني والخيري، فهو يقدم فيه كما يقول أقل ما يمكن من عون لإفطار أناس تقطعت بهم السبل وضاق بهم العيش مع أولادهم.

ويحرص بعض أهالي "حلب" الميسورين سواء في الداخل أو في المغترب على الوقوف مع أبناء مدينتهم في محنتهم، حيث قام أحد الأطباء الحلبيين المغتربين بتوزيع الآجار السنوي لمنزله في "حلب" بالكامل على الصائمين المتأثرين بالزلزال والذين فقدوا منازلهم وضاقت بهم الأحوال، وتعهد بالاستمرار رافضاً ذكره اسمه.

وعن مبادرة (طبختك ببيته) تحدثت الشابة "لين سلطان" قائلة: «نحن أكثر من عشرين صبية نقوم بتجهيز وجبات من الأرز والحمص والفريكة والفروج ولحم العجين للصائمين والمنكوبين من آثار الزلزال، وعملنا بإشراف اتحاد الجمعيات الخيرية.. تنشط مبادرتنا التي تحمل (طبختك ببيته) على توزيع أكثر من مئة وخمسين وجبة غذائية منوعة في عدة أحياء فقيرة ومتضررة».

تم إجراء اللقاءات في أحياء سيف الدولة وباب جنين بتاريخ السادس والسابع من شهر نيسان لعام 2023