تعدّ صناعة العرق البلدي جزءاً من التراث السوري في العديد من المناطق وخصوصاً في منطقة الساحل، حيث لا يزال يتم تصنيعه بالطرق التقليدية من الكثير من العائلات، كمؤونة منزلية وكنوع من الضيافة وأحياناً يتم بيعه لتحقيق مردود مادي.

معمل العرق

في أواخر الأربعينيّات من القرن الماضي بنى "غصن العجي" أول معمل لإنتاج العرق والمشروبات الروحية في منطقة "مشتى الحلو" وقراها، والذي اعتبر آنذاك ثاني منشأة اقتصادية في "المشتى" بعد معمل الحرير، حيث أمّن معمل العرق فرص العمل لأبناء المنطقة وزاد من النشاط الزراعي والحركة التجارية فيها.

إن العرق البلدي يحتاج إلى خبرة متوارثة في التعامل مع "الكلكة" ودرجة الغليان والتبريد، كذلك نوع اليانسون الذي تختلف نسبة جودته بحسب معايير معينة خاصة بالزراعة والمناخ المناسبين، وتعتبر منطقة "حينة" من أفضل المناطق التي تنتج اليانسون الشامي الذي يزداد عليه الطلب دون غيره في "سورية ولبنان" لاحتوائه على مادة زيتية عطرية تحول الكحول إلى عرق وتعطيه درجة حلاوة مقبولة، ومن وجهة نظره أنه من الطبيعي تناول المشروبات المستوردة كنوع من التعرف على صناعات الشعوب الأخرى والخروج من دائرة التقليد، التي لم تؤثر نهائياً على ترويج أو شهرة العرق البلدي خاصة وأن له روّاداً كثراً لأنه مصنوع بأيد محلية وطريقة تقليدية تحافظ على الجودة

يروي ابن أخ صاحب المعمل "حسان العجي" ذكريات العائلة التي كانت تجلب العنب من القرى الواقعة في جبل الحلو (ضهر القصير)، وخاصة قرية "فاحل" ليتم غسله وعصره وتهيئته للمراحل اللاحقة، أما البرك الخاصة بكبيس العنب فكانت كثيرة، لأن معظم الأهالي يصنعون العرق في منازلهم للاستهلاك المحلي أو للبيع والتجارة، وكثيراً ما كان "غصن العجي" يستخدم برك الأهالي الخاصة بكبيس العنب عند الحاجة، مع عدد كبير من البراميل، وفيما بعد تم تركيب قازان نحاسي (جهاز تقطير) يتسع لثلاثة براميل، يتصل من أعلاه بأنبوب نحاسي ممدود إلى بركة ماء معدة للتبريد، متدرج الأقطار بحيث يضيق تدريجياً وتخرج منه قطرات العرق.

عصر العنب المشرقي الأصفر

سرّ النّجاح

الكلكة وعرق الحلو

يشير حفيد العائلة إلى الإخلاص الكبير والروح الجماعية التي كانت سائدة في العمل الذي كان يتواصل في أوقات الذروة على مدار الساعة، إضافة الى العلاقة الوديّة السائدة بين الجميع والتي جعلت جميع العاملين يعتبرون أنفسهم شركاء لا عمّال، واشتهرت منتجاته على نطاق المحافظة والمناطق المجاورة في "طرطوس وصافيتا وبانياس واللاذقية" وعدة مدن سورية أخرى.

كان "غصن العجي" يطلق اسم "عرق الغصن، عرق قازان، عرق يانسوني" على منتجه، وكان ينافس باقي الأصناف المعروفة آنذاك، توفي صاحب المعمل "غصن العجي" بحادث مأساوي عام 1959، واستمر عمل معمل العرق لبعض الوقت إلى أن توقف نهائياً، وكل ما تبقى منه هيكل أسمنتي فارغ.

الكلكة وعرق الحلو

من جديد

يتحدث "جورج الحلو"- 46 عاماً للمدونة كيف ورث هذه الصناعة عن أجداده ليصبح عمراً شغفه 25 عاماً، حيث عمل والده في معمل عرق "غصن العجي" واشتغل لاحقاً بشكل فردي.

يحافظ "الحلو" على الاسم العريق للعائلة "عرق الحلو" المتميز بطعم العرق البلدي الصرف، بعيداً عن استعمال المواد التجارية بصبغاتها ونكهاتها الضارة، تأكيداً على توارث هذه الصناعة من جيل إلى جيل للمحافظة على تراث المنطقة من النسيان والاندثار.

يشير "الحلو" إلى أن أغلب بلدان الشرق الأوسط و"تركيا وأرمينيا واليونان"، قامت بصناعة العرق منذ أكثر من ثلاثمئة عام بعد اكتشاف جهاز التقطير "الكركة أو الكلكة"، وفي "سورية ولبنان" يعد مشروباً تقليدياً في الكثير من المناطق، كما أنه ارتبط ارتباطاً تاريخياً بأهل المنطقة الذين صنعوا العرق بالطريقة التقليدية ذاتها بسبب وفرة العنب واليانسون في المنطقة.

وتشتهر مهرجانات الكرمة في المنطقة "حسب الحلو" والتي تبدأ من السبت الثاني من شهر تشرين الأول، حيث يجتمع أهل المنطقة ويذهبون للمشاركة في قطاف العنب وطقسه المسلّي، الذي يمثل أول مرحلة من مراحل التصنيع، تليه سلسلة من السهرات الاجتماعية والجلسات العائلية التي تكون فيها "الكلكة" ضيف شرف ومركز اهتمام، مع الإشارة إلى ارتباط العرق بالمناسبات الاحتفالية كالأعراس والجلسات العائلية الخاصة المرافقة لعزف العود وغناء الميجانا والعتابا، وفي بعض الأحيان تشكل دخلاً مهماً لبعض العائلات.

العرق البلدي

يصنع العرق باستخدام "الكلكة" التي تتألف من ثلاثة أقسام مصنوعة من النحاس، القسم الأول هو "الجعيلة" التي يوضع فيها العنب المعصور أو الكحول في المراحل المتقدمة، والقسم الثاني هو القبع أو القمع الذي يصل بين القسم الأول والثالث، والقسم الثالث هو العروس وهو القسم الذي تتم فيه عملية التقطير، ويمكن استعمال أي نوع من الفاكهة كالتين أو التوت لأن معظم السكريات تتحول بالتخمير إلى كحول، ولكن يفضل استعمال العنب الأبيض الذي يسمى "دوكلجان"، ويسمى في المنطقة بالعنب المشرقي الأصفر لزراعته البعل واحتوائه على نسبة عالية من السكر.

ويشرح "الحلو" مراحل الصنع التي تبدأ بالعصر ثم تُخمر من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع لحين تحول عصير العنب إلى كحول بدرجة خفيفة بالتخمير، لتأتي المرحلة الثانية بوضع العصير في "الكلكة" بدرجة حرارة 65-70 درجة فيتحول بالتقطير إلى كحول من الدرجة 40 تقريباً، وتسمى "السوما" وفي المرحلة الثالثة يضاف اليانسون الشامي ويعاد تقطيره لتصبح درجته الكحولية حوالي 65 درجة، وهنا يطلق عليه بالعرق المثلث، ويقدر سعر القنينة حالياً بـ25000 ليرة.

نديم الجلسات

بدوره يقول الشاب "تيهان عيسى" 27 عاماً: «إن العرق البلدي يحتاج إلى خبرة متوارثة في التعامل مع "الكلكة" ودرجة الغليان والتبريد، كذلك نوع اليانسون الذي تختلف نسبة جودته بحسب معايير معينة خاصة بالزراعة والمناخ المناسبين، وتعتبر منطقة "حينة" من أفضل المناطق التي تنتج اليانسون الشامي الذي يزداد عليه الطلب دون غيره في "سورية ولبنان" لاحتوائه على مادة زيتية عطرية تحول الكحول إلى عرق وتعطيه درجة حلاوة مقبولة، ومن وجهة نظره أنه من الطبيعي تناول المشروبات المستوردة كنوع من التعرف على صناعات الشعوب الأخرى والخروج من دائرة التقليد، التي لم تؤثر نهائياً على ترويج أو شهرة العرق البلدي خاصة وأن له روّاداً كثراً لأنه مصنوع بأيد محلية وطريقة تقليدية تحافظ على الجودة».