لم تستسلم لظروف حياتها الصعبة والمؤلمة عندما تكالبت عليها هموم وأوجاع الحياة من كل جوانبها، وهي التي فقدت زوجها وابنها البكر، ومن ثم شرّدتها ظروف الحرب بين أحياء مدينة "حلب" من منزلٍ لآخر.

تحدّت "أم النور" ظروفها واتخذت قرارها بالنزول للشارع والعمل لكسب لقمة العيش فاستثمرت سيارتها بشوارع المدينة كسائقة عامة للأجرة إضافة لعملها الأساسي السابق كمنسقة للحفلات الموسيقية لأعراس النساء (دي جي).

"أم النور" هي جارة لنا يمكن أن نطلق عليها لقب امرأة مكافحة عصفت بها الحياة لكنها لم تستلم، عملت بأكثر من مجال وتغلّبت على المصاعب والشدائد، تستحق الاحترام والتقدير ويمكن عدّها مثالاً للأم المعطاءة

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار السيدة "نور حفار" الملقبة والمعروفة بمدينتها بـ"أم النور" كأول سائقة أجرة في المدينة لسماع سيرة حياتها وكفاحها وتجربتها الفريدة وكيف عملت بمهنة مخصصة للرجال.

"أم النور"تتفقد جاهزية السيارة كل الصباح قبل العمل

رغم الظروف

الكهربائي "سامر دراو" ومساعدة أم النور

تقول "نور" :«أنا من مواليد مدينة "حلب" لعام 1966 من أهالي حي "باب المقام" المجاور "لقلعة حلب"، أكملت دراستي للمرحلة الإعدادية وتزوجت مبكراً، وبعد أن كبر أولادي وزاد العبء المادي على عائلتي ولمساعدة زوحي وأولادي في تربيتهم ودراستهم ولتأمين بعض الدخل الإضافي، قررت العمل كمنسقة لحفلات الأعراس في الصالات الخاصة بالنساء، والتجربة الأولى لي كانت في عام 2008 بتجهيز حفلة زفاف عروس ابن أخي، وتلخص عملي بوقتها بتجهيز الصالة قبل انطلاقة الحفل من خلال تأمين الكراسي وبما يتناسب مع عدد الضيوف، وفحص صلاحية أجهزة الصوت وتأمين الفرقة الموسيقية والمطربة وكاسيتات التسجيل وترتيب كل المستلزمات الأخرى، وشيئاً فشيئاً زادت خبرتي في هذا المجال وسارت الأمور بشكل مقبول ومستور، ولأن عملي كان يمتد لوقت متأخر ليلاً قمت في عام 2010 بشراء سيارة "سابا" خصوصي وبالتقسيط، وبدفعات شهرية بمعدل عشرة الآف ليرة، وغايتي كانت هي نقل أجهزة الصوت وباقي المعدات الأخرى ومن يعمل معي، ولضمان وصولي لمنزلي بأمان».

بداية عملها الخاص على السيارة كانت بعد انتهاء الحفلات بنقل زميلات العمل في الحفل إلى منازلهن بأجور، تلا ذلك نقل وجبات طعام والخبز لأحد المطاعم ونقل حذّائين لحي "الراموسة"، وخياطين لحي "حلب الجديدة"، كل ذلك بدأ يدخلها في جو الحياة العملية والتعرف أكثر على كيفية التنقل بين شوارع المدينة.

لا بدّ من الأمل والتفاؤل وسط الصعاب

اللحظةُ الفارقة

تسرد "أم النور" اللحظات المؤلمة والصعبة في حياتها بحديثها للمدوّنة قائلةً: «كانت الأمور طبيعية ومريحة بمدينة "حلب" وعيشتنا مقبولة فيها صراع وكفاح الحياة، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان مع بدء الحرب في عام 2011 بعد أن تأزمت وبدأت تسوء أمور حياتنا كثيراً وشلت حركة العمل بالمدينة وأصبح من المستحيل تأمين دخل إضافي، فحفلات الأعراس داخل الصالات والطلبات الخاصة كلها توقفت تماماً، والحرب مستعرة هنا وهناك ولا تهدأ، ومنزلي بـ"حي صلاح الدين" وسط النار ،فكان من المستحيل البقاء فيه، وفي عام 2012 تركنا المنزل وانتقلنا لحي "الحمدانية" المجاور لعلّه يؤمّن لنا بعض الأمان والاستقرار، وسكنّا في بناء متواضع بـ"حي تشرين"، وكان من دون إكساء فقمت بتجهيزه قدر المستطاع».

وتضيف: «مرض زوجي والتحاق ابني البكر بخدمة العلم، جعلاني اتخذ قراري بالنزول للعمل على السيارة كسائقة أجرة.. كانت البداية صعبة بنظرات الناس لي، ولكن تابعت العمل بثقة، وكانت دهشة ونظرات الناس والجيران تخف مع الوقت وتعرفت على الأماكن الآمنة لنقل العامة، وجاءت اللحظات الأكثر قسوة في حياتي باستشهاد ولدي البكر ووفاة زوجي، وهنا أدركت أنه لا مفرّ لي من قدر الله وحتمية متابعة العمل لإعالة ابني الذي يدرس بالجامعة كي لا ينقطع عن تعلميه مع وجود بناتي الاثنتين، وحاول ابني أكثر من مرة أن يقنعني بترك دراسته لكني رفضت الفكرة وطلبت منه أن يلتفت لدراسته، واستمريت بعملي الذي اخترته حتى عام 2016 بدء تحرير المدينة».

أحداثٌ لا تنسى

تستذكر "أم النور" بعض المواقف التي صادفتها وتقول: «كثيرة جداً هي المواقف التي صادفتني ولكن قبل ذكرها أحب أن أقول أن ما شاهدته من أبناء مجتمعنا يعجز لساني عن شكره، من خلال تقديمهم شتى أنواع المساعدة لي وخصوصاً في حال حدوث عطل في السيارة وأيضاً بمساعدة رجال المرور لتسهيل حركة مروري.. أنا لا أفاوض ولا أرفض أي مبلغ يصلني، وكثيراً ما كنت أسامح في بعض الأجور من اليتامى والطلاب، وبأسلوبي الخاص كنت أشعر جميع ركابي أنهم بمنزلة أبناء وإخوة لي وعلينا مساعدة بعضنا بهذه الظروف.. وبعد تحرير المدينة عدت لمنزلي الأصلي ورممت ما تهدم منه مع معاودة عملي الذي اشتهرت به كمنسقة للحفلات النسائية إضافة لقيادتي السيارة بالأجرة».

أهلُ الحي والجيران

"سامر دراو" معلم كهرباء سيارات يقول: «تقديراً لظروفها الخاصة واحتراماً لها ولعملها وكفاحها وضعت نفسي في خدمتها بأي وقت كان، وللأمانة فقد حافظت "أم النور" على جاهزية عربتها، وتراجعني باستمرار من أجل إصلاح الأعطال وتلتزم بالنصائح المعطاة لها وترفض أن أسامحها بتقاضي الأجور».

بدورها تقول "دلال الأحمد" وهي جارتها: «"أم النور" هي جارة لنا يمكن أن نطلق عليها لقب امرأة مكافحة عصفت بها الحياة لكنها لم تستلم، عملت بأكثر من مجال وتغلّبت على المصاعب والشدائد، تستحق الاحترام والتقدير ويمكن عدّها مثالاً للأم المعطاءة».

"مصطفى عتو" حلاق مجاور لمنزلها: «"أم النور" هي جارتي في البناء مشهود لها بين أهالي الحي بالخلق والمعاملة الحسنة، تعمل من أجل لقمة العيش بشرف، الكل يريد تقديم المساعدة لها لكنها ترفض وتقول ما دامت قادرة على الوقوف والعمل فليست بحاجة لأحد وهذا ما يزيد احترام الناس لها».

تمّ إجراء اللقاء بتاريخ العاشر من شهر كانون الأول لعام 2021 في منزلها الواقع بـ"حي صلاح الدين".