بماكينتها التي تعود إلى بداية عام 1969؛ اقتنصت "نوال أبو جهجاه" كلّ الوقت لتحافظ على بيتها وأطفالها الأربعة من الضياع، متسلّحة بخيال خصب ويدين لا تكلّان من التعب، وعينين لا تنامان إلا قليلاً، حتى استقرّ الأبناء في أعمالهم وبيوتهم.

مثل كلّ فتاة حصلت على هدية عرسها من والدها الذي اعتاد أن يهدي بناته ماكينة خياطة، لتأخذ ركناً في بيتها الجديد، وتكون ذكرى طيبة من أهلها، غير أن وفاة الزوج المبكرة حوّلت هذه الآلة إلى معين ومنقذ لزوجة تعاني آلام الفراق. وفي حديثها الشجيّ لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 28 تشرين الأول 2016، تروي الجدّة "أم نضال" سنوات كفاحها الطويلة، وتقول: «ولدت عام 1949 في مدينة "شهبا"، كان وضعنا المادي مقبولاً نوعاً ما قياساً إلى باقي الناس، كان حلمي أن أكمل تعليمي لأنني كنت متفوقة في دراستي، غير أن وفاة والدتي وأنا لم أكمل الحادية عشرة من عمري جعل حلمي صعباً، لكنها كانت حريصة على تعليمنا أشغال الصنارة وكيفية الخياطة على الماكينة التي لا يخلو بيت جبلي منها، وتعدّ جزءاً أساسياً من الأثاث بسبب الفقر وعدم القدرة على شراء الملابس في كل حين.

حاولت والدتي تعلّم اللغة الإنكليزية، وهي تقرأ وتكتب بخط جميل، وتوثق الأيام في مفكرات نظامية، وتتواصل معنا عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي، فقد حاولت جهدها لكي تلحق بأحلامها الضائعة في العلم نتيجة الظروف التي مرّت بها، لكن عوّضت عن ذلك بأولادها، ويكفينا فخراً أنها طوال الأوقات الصعبة التي مرّت بها لم تلجأ إلى أحد بأمر ولو كان صغيراً

تزوّجت في سنّ صغيرة، وكانت هديتي كالعادة ماكينة خياطة جلبها والدي من "دمشق" بمبلغ 165 ليرة سورية، وفي عام 1975 أقام الاتحاد النسائي دورة تدريبية على الخياطة في مدينتي، فالتحقت بها من باب الرفاهية، تعلّمت قليلاً من خلالها، لأنني كنت أتقن الكثير من أعمال الخياطة المكتسبة من الأم ونساء الحارة، وأقوم باستخدام الماكينة لأعمال المنزل فقط. وعندما توفي زوجي عام 1979 كان أطفالي صغاراً في السن، فقررت العمل والسهر على تعليمهم مهما كلّف الثمن، وعلى الرغم من وجود أرض وبستان تركهما الراحل لنا، إلا أنني لم أفكر للحظة واحدة في بيعهما خوفاً من أن يقول الناس إنها باعت لتأكل وتشرب.

تفتتح معرض "لمّة محبة" لتدوير التوالف

وأعلنت أمام نساء الحارة وأقاربي أنني مستعدة لتفصيل "الزي العربي" الخاص بالنساء، وهكذا بدأت العمل منذ مطلع عام 1980، وحتى عام 2003 عندما توقفت يدي اليمنى عن مساعدتي في العمل».

مع أول قطعة قماش قامت بصنعها، اقتنت مفكرة ووثّقت كل خطوة قامت بها، وهي دليل لكل من يرغب بمعرفة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية الثمانينيات حتى بداية الألفية الجديدة، وعلى الرغم من أنها الخياطة الرابعة في المدينة، إلا أن لمساتها الفنية وإبداعاتها في التفصيل جعلتها تحتل الصدارة، حيث تضيف: «كنت حريصة على كل تفصيل، وكل خطوة حتى أعرف ما لي وما عليّ، اكتشفت كم كان الأهل كراماً عندما وجدت الماكينة أمامي لبدء العمل، وفي الشهر الأول أنجزت ثلاث (بدلات عربية)، وأنتجت ستين ليرة سورية فوق راتب زوجي التقاعدي؛ أي إن تفصيل الواحدة منها كان عشرين ليرة سورية، وبدأ السعر الارتفاع أثناء الحصار الاقتصادي لـ"سورية" في منتصف الثمانينيات، كنت خلالها حريصة على أن أقدم لأبنائي الأربعة كل ما يحتاجون إليه وألا أحرمهم من شيء، وقد تعبت على عملي واجتهدت لإرضاء الزبائن، وخاصة العرائس اللواتي يرغبن بوجه دائم بـ"موديل" مختلف تماماً عن أي بدلة عربية أخرى، ومن المعروف أن الزيّ العربي لا يحتمل الكثير من التفاصيل، لكنني اجتهدت على تفاصيل التفاصيل بالصبر والتفكير المتوازن حتى أرضي الزبائن، لكن هذا الأمر أكسبني شعبية جيدة، وبتّ مع الوقت أقدم خياطة في المنطقة».

الماكينة التي رافقت أحلامها وآلامها

أما عن هوايتها في التوثيق، فتقول: «لا أعدّها هواية، فهي عادة قديمة اكتسبتها مع الزمن، فكل وثيقة أو وصل مالي أو حادثة أقوم بتدوينها على دفاتري الكثيرة، والاحتفاظ بالأوراق، ولدي الآن دفاتر كثيرة فيها تفاصيل عديدة عن الأربعين سنة الماضية من سعر الذهب إلى قيمة الليرة وأسعار المواد التي أستعملها للعمل وغيره، لكنني توقفت عن ذلك بعد أن تعبت يدي اليمنى عام 2003، وهي السنة التي قررت فيها ترك مهنتي، وإحالة ماكينتي إلى التقاعد، وهي للعلم لم تتعطّل عن العمل ليوم واحد».

تعلم أبناؤها جميعهم تعليماً عالياً، وهم مستقرون في بيوتهم ليس بعيداً عن والدتهم التي ما زالت حتى اللحظة ترعى أحفادها بكل جوارحها، وهي الآن تشعر بالسلام الداخلي بعد أن أدّت الأمانة على أكمل وجه، والملاحظ أنها سايرت العصر بكل أبعاده، حيث يقول ولدها الموظف في الشركة العامة للنفط والمحروقات "حسام أبو جهجاه": «حاولت والدتي تعلّم اللغة الإنكليزية، وهي تقرأ وتكتب بخط جميل، وتوثق الأيام في مفكرات نظامية، وتتواصل معنا عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي، فقد حاولت جهدها لكي تلحق بأحلامها الضائعة في العلم نتيجة الظروف التي مرّت بها، لكن عوّضت عن ذلك بأولادها، ويكفينا فخراً أنها طوال الأوقات الصعبة التي مرّت بها لم تلجأ إلى أحد بأمر ولو كان صغيراً».

من أعمالها القديمة التي تفخر بإنجازها

المحامية "ريم خداج" العضو الفاعل في مجموعة "لمّة محبة"، والقاطنة بجوار "أم نضال"، قالت: «تعدّ "نوال أبو جهجاه" سيدة استثنائية بكل ما للكلمة من معنى، فهي امرأة جميلة قلباً وقالباً، وعندما تتحدث معها تشعر بأنك أمام امرأة صلبة قوية ذات خبرة كبيرة بالحياة، تبيّن لك ملامح وجهها قدرتها الكبيرة على التعامل مع ضغوطات الحياة بتعقّل وتروٍّ وهدوء، ومع كل هذه القوة تجد بين ضلوعها قلباً دافئاً وحناناً ورقة ليس لها مثيل، سيدة عصامية مكافحة معطاءة، استطاعت تربية أربعة أولاد في ظروف اقتصادية صعبة، وأنشاتهم على قيم سامية وعلّمتهم الأنفة وعزة النفس والأخلاق، فكان منهم الطبيب والمدرّس والموظف، واستطاعت التوفيق بين أمومتها وعملها في الخياطة، وتحمّلت أعباء هذه المهنة القاسية، فتعاملت مع كافة شرائح المجتمع بطيبة واحترام وأخلاق. تعدّ مدبّرة منزل من الطراز الأول، فهي من أولى السيدات اللواتي عملن بتدوير الأقمشة وصنع مواد التنظيف وحياكة الصوف، ونراها اليوم تحاول مواكبة الحضارة، فتعلمت العمل على الحاسوب والإنترنت، وما زالت تقوم بدور المربية لأحفادها، ومن أجل كل ذلك قامت "لمّة محبة" بتكريمها أثناء افتتاح معرضها الذي حمل عنوان: "بيئتي هي بيتي"؛ لكونها من النساء الأوائل اللواتي عملن بالتدوير، حيث قامت بافتتاح المعرض الذي ضمّ مئات القطع الفنية».