ثمانية وعشرون جيلاً من الأطفال وحتى الشباب، علمهم المدرّس "محي الدين"، فدرس أغلبهم الاختصاصات الأكاديمية المختلفة، في زمن كان التعلم أبعد ما يكون عن مجتمعه، لصعوبة الحياة وضراوتها آنذاك، فنهضوا بالمجتمع وشفعوا له أمام محاكم الجهل.

من قرية "المنزلة" التابعة لمدينة "بانياس" انطلق المدرّس "محي الدين حسن شيحا" نحو العناية بالفكر لبناء المجتمع السليم، فكان أول من حصل على الإجازة الجامعية في قريته، رغم الفقر في مختلف النواحي، ولكنه لم يستسلم لهذا الفقر، ساعده والده الطيب المكافح لمتابعة تحصيله العلمي، وهذا بحسب حديثه لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 20 نيسان 2015.

لكوني أول مدرس في القرية، كان منزلي ملتقى للجميع، المحب للعلم والعاشق للثقافة والمولع بالمعرفة، وهذا جعلني رجلاً ذا كلمة في مجتمعه، كما كنت رجل علم في عملي، فلم أبخل على أحد بما تعلمته وحصلت عليه في مختلف المجالات، حتى إنني أصبحت خطيب القرية

وللبدايات شجون لديه، قال عنها: «أنا ابن أسرة فقيرة، الأب فيها يتيم والأم كذلك، ولا يملكان قواعد أساسية يرتكزان عليها في معيشتهما سوى عملهما اليومي، ومع بداية العام 1950 انطلق الحراك التعليمي في مدينة "بانياس"، على أساس عدم وجود مدرسة في القرية والقرى المحيطة، حيث كانت المدرسة الوحيدة في تلك الفترة، هي ما تسمى حالياً مدرسة "ابن خلدون" للتعلم الابتدائي الرسمي، فدرست فيها حتى الصف الخامس، علماً أن لي أخوين الأول أكبر مني والثاني يصغرني بحوالي سبع سنوات، وكنت أقصد المدرسة سيراً على الأقدام لمسافة حوالي سبعة كيلومتر، وأنا شبه عارٍ من الملابس، نتيجة الفقر المحيط بنا، تحملت كل شيء بمساعدة والدي المحب للتعليم والثقافة ومشجعي الأول على ذلك.

المدرس مازن شيحا

فحصلت على الشهادة الابتدائية بدرجة جيد، وبعد عام 1955 ونتيجة عدم وجود مرحلة تعليمية بعد الابتدائية، أنشأت هذه المرحلة للتعليم الرسمي الحكومي في مدرسة الشهيد "عماد عرنوق" حالياً، فكنا أنا ومجموعة لا تتجاوز أربعة طلاب من أبناء القرية، أول دورة تتخرج فيها بحصولنا على الشهادة الإعدادية، أو ما كان يعرف بالشهادة المتوسطة، التي تقدمنا إليها في مدينة "طرطوس" حيث أستأجرنا غرفة هناك طوال مدة الامتحان، وحصلت على الشهادة بدرجة جيد جداً».

الوضع المادي السيء لوالد "شيحا" لم يكن ليمنعه من متابعة تحصيله العلمي، يقول متابعاً: «كان العبء كبيراً على والدي رحمة الله عليه، ولكن والدي كان محباً للعلم ومشجعاً عليه، لذلك لم يألُ جهداً للعمل وتأمين مصروفي وإخوتي، وكان كما قيل "شيخ كار معلمي قطع الحجارة والزراعة" بمختلف الطقوس والأحوال الجوية، فقد كان مجاهداً في سبيل أسرته، وجميع هذه الأمور كانت تدفعني للعمل في أوقات الفراغ، وخاصة بعد انتهاء كل عام دراسي».

الجد إبراهيم الحيدري

الفتى أصبح شاباً مندفعاً يرى في متابعة التحصيل العلمي سبيلاً للنهوض بالواقع المرير، وهنا قال: «في عام 1961 قدمت طلب لمتابعة الدراسة في "دار المعلمين" بمحافظة "حلب"، وبعد جهد قبلت وفقاً لتسلسل أسماء الناجحين، فالتحقت بالدوام مع بعض الزملاء، وفي السنة الثالثة وجدت تشابهاً كبيراً بين منهاج تعليم الدار ومنهاج الثالث الثانوي، وهذا شجعني على تقديم الثانوية العامة كطالب حر، وأكملت السنة الرابعة في دار المعلمين وسجلت في كلية الأدب العربي، ولم أنقطع عن دور الثقافة والمكتبات العامة، ومنها مكتبة "حلب" الوطنية، التي كنت أقضي فيها نحو ست ساعات في كل مرة، وهو ما زاد مخزوني الفكري والثقافي ووسع آفاقي المعرفية، فقد كنا في دار المعلمين ندرس كل شيء، كالموسيقا والصحة واللغة والفلسفة والأدب والزراعة، وما ساعدني في هذا تكيفي مع واقعي ومحبتي لما أنجزه وأسعى إليه، وأحب الحصول على كل معلومة جيدة في واقع الحياة، وقد كان ذلك الشغف سبباً ودافعاً أساسياً للمطالعة وزيارة المراكز الثقافية والمكتبات العامة كما قلت سابقاً، إضافة إلى التعلم في فصل الشتاء والعمل في فصل الصيف، وهذا زاد من تواضعي الاجتماعي ودفعني للمساهمة ببناء الإنسان، معتمداً على مقولة: إن الإنسان يكبر بعمله وأخلاقه وأدبه، فالشهادة لا ترفع الإنسان إلا بمقدار ما يعمل بها، وتجسد هذا بتعليمي بمحافظة "الحسكة" رغم صعوبة تلك المرحلة، والصعوبة في الأمر أنني كنت أذهب من "الحسكة" إلى "دمشق" لمتابعة التحصيل الأكاديمي، رغم وجود زوجة وأسرة».

بعد "الحسكة" كانت محطة الراحة من السفر والتنقل، وكانت محطة جديدة في مرحلة بناء الإنسان فكرياً، وهنا قال: «انتقلت للتعليم في قرية "الزللو" المجاورة لقريتنا "المنزلة"، وهنا بدأ وضعي يستقر بهدوء، رغم أن الأسرة التي بت مسؤولاً عنها كان عددها ستة عشر فرداً، منهم أمي وأبي الكبيران في السن، وأبناء أخي الراحل "بشير"، إذ كانت وجبة الطعام توضع لنا جميعاً في ثلاثة أطباق من القش، بإشراف وإعداد زوجتي "أم تمام" التي كانت سنداً وعوناً كبيراً لي، ولولاها لما تمكنت من الصمود كثيراً.

المدرس محي الدين شيحا

وبعد تعديل وضعي الوظيفي من معلم إلى مدرس، تحسن دخلي الشهري، وهنا كنت أول مدرس جامعي في القرية، وانتقلت للتعليم في ثانوية الشهيد "فهيم محمد" في "حي القصور" ومنها إلى ثانوية "الحرس القومي" كمدير، تلتها مدرسة "عماد عرنوق"، حيث تخرج على يدي المئات من محبي العلم ومتابعة التحصيل العلمي، لأنني قدمت لهم معرفتي وتجربتي بكل محبة وإخلاص، واليوم منهم أمهر أطباء ومهندسو المدينة».

من همّ بناء الإنسان في المجتمع إلى همّ بناء الإنسان في الأسرة نواة المجتمع، رحلة طويلة، قال عنها: «في عام 1992 قدمت طلب استقالة لأتمكن من بدء عمل حر يعينني على متابعة التحصيل العلمي الجامعي لأبنائي الخمسة في تلك الفترة، فعملت بالتجارة العامة أو ما يعرف بتجارة الخردوات العامة كالمسامير والعدد الصناعية وغيرها، والحمد لله تمكنت مما هدفت إليه فجميع أولادي أكاديميون بمختلف الاختصاصات الطبية والتعليمية».

ولكن التفرغ لقيادة المجتمع القروي معنوياً واجتماعياً، عمل إنساني كما وصفه، لخريف العمر لا بد منه، وهنا تابع المدرس "شيحا": «لكوني أول مدرس في القرية، كان منزلي ملتقى للجميع، المحب للعلم والعاشق للثقافة والمولع بالمعرفة، وهذا جعلني رجلاً ذا كلمة في مجتمعه، كما كنت رجل علم في عملي، فلم أبخل على أحد بما تعلمته وحصلت عليه في مختلف المجالات، حتى إنني أصبحت خطيب القرية».

وفي لقاء مع المدرس "مازن محي الدين شيحا" قال كطالب وابن: «المجتمع ينجح بالأسرة وتكوينها وتنشئتها التنشئة الصحيحة، وعلى هذا الأساس عمل والدي في مسيرته لنكون نواة جيدة في المجتمع، فنحن مثلاً وكأبناء له جميعنا حملة إجازات جامعية، وهناك من حمل الهمّ الذي حمله والدي في مسيرته التعليمية، فكان منا المدرس والمنشئ، وآخر حمل الهمّ الصحي فكان ذا اختصاص طبي متميز كأخي الأكبر الدكتور "تمام". مسيرة والدي التعليمية والعملية ساعدتنا في حياتنا الاجتماعية والمهنية، فجميع من تخرجوا على يديه ونحن منهم، يكنون له كرامة وحباً لما وجههم إليه، وهم سند لنا في حياتنا».

أما المعمر "إبراهيم رجب الحيدري" وهو صديق المدرس "شيحا"، فقال: «هو صديق، ومصدر ثقة ومحبة لنا كفئة عمرية معينة مقاربة لعمره، فقد كان له الفضل في كثير من الأمور الخيرة لقريتنا ومجتمعنا، ومنها على سبيل المثال الدعوة الدائمة للمحبة لكونه خطيب القرية، وأذكر أنه كان ذا فضل بحل خلاف بين عائلتين أو جارين إن صح التعبير، والخلاف كان بسبب جدار استنادي حقلي قديم، وله كلمة طيبة حيث تدخل وحل الخلاف بينهما، والتزم الطرفان بالحل المرضي لهما.

إضافة إلى أنه تدخل بخلاف ناجم عن حادث سير أدى إلى إراقة دماء بين أسرتين، فكان له فضل بتهدئة النفوس وعودة المياه إلى مجاريها، فلولاه لكبرت القصة إلى حد لا يمكن حله بالطرائق الودية، ولكان راح ضحيتها أبرياء، وأؤكد أن ما خدمه وقدمه للناس بهذا القالب الاجتماعي مسيرته النضالية على الصعيد المجتمعي كأول رجل مثقف في القرية، وعلى الصعيد الأسري لنبالته ودماثة خلقه مع أبناء أخيه الصغار بعد وفاته».

الجدير بالذكر أن المدرس "محي الدين شيحا" من مواليد قرية "فارش كعبية"، عام 1943.