تفوح في الجو روائح زيت القلي، وما هي إلا بضع دقائق حتى يخرج قرص "الزلابية" شهياً يتخاطفه الأطفال المتجمعين كأسراب القطا حول المقلى المعلق فوق "ثفية" الحطب.

هذه الصورة الباقية في الذاكرة هي آخر ما يذكره الباحث "عيسى أبو علوش" عن طقوس الأكل والشرب في القرى، فاليوم اختلفت هذه الأكلات إلا من قليل باق في المناطق البعيدة عن سلطة العولمة الحاضرة للأسف بقوة أزاحت تلك الألفة إلى غابة النسيان.

للأكل والشرب قدسية لدى أهل الشام كما عند مختلف الشعوب، في الساحل السوري، هذه القدسية تأتي من احترام كامل للأكل الذي يسمونه "نعمة"، وكل ما يؤكل كان "نعمة"، حتى إن قطعة خبز صغيرة لم تكن ترمى، وفي حال وجد أحدهم قطعة خبز مرمية على الأرض حملها بيديه وقبلها ووضعها في جيبه أو في ثقب أو وكر لتأكلها دابة أو حيوان ما

يضيف الباحث "أبو علوش" في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 24 أيار 2015: «للأكل والشرب قدسية لدى أهل الشام كما عند مختلف الشعوب، في الساحل السوري، هذه القدسية تأتي من احترام كامل للأكل الذي يسمونه "نعمة"، وكل ما يؤكل كان "نعمة"، حتى إن قطعة خبز صغيرة لم تكن ترمى، وفي حال وجد أحدهم قطعة خبز مرمية على الأرض حملها بيديه وقبلها ووضعها في جيبه أو في ثقب أو وكر لتأكلها دابة أو حيوان ما».

"شنكليش" ريفي

لم يكن الأكل مجرد طقس عادي، بل هو أقرب إلى احتفالية بالحياة والنعمة المتوافرة، فمع القلة والندرة كان هناك احترام كبير لما تجود به الطبيعة عليهم، يقول الباحث: «يبدأ الأكل دوماً بالبسملة والحمد لكل الموجودين على "الوقعة"، وهو اسم للوجبة، والجميع ينتظرون حضور رب البيت لكي يعطي إشارة البدء بعيد قراءة سورة "الحمد" أو الصلاة المريمية، ثم يقبلون على الأكل لحين انتهاء كل منهم، فينهضون شاكرين حامدين هذه النعمة قائلين: "الحمد لله على هذه النعمة، اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال"».

تتنوع المآكل تبعاً لما تقدمه الأراضي من مواسم، ولكن الأغلب عليها كما تقول الباحثة "فريال سلم الشويكي" في كتابها "الزمن السعيد": «الأطعمة المطبوخة بزيت الزيتون، مثل: "البرغل، البامياء، والفاصولياء، والباذنجان"؛ وكلها تطبخ مع البندورة، أما في الربيع فقد كانت الأعشاب من "هندباء، ولباس القطة، والقريصة" وغيرها سيدة الموائد العامرة في تلك الجبال".

عيسى أبو علوش

وكان أكلهم خفيفاً يعتمد على منتجات الأرض والقليل من اللحوم، وما تنتجه الحيوانات من ألبان تمثل خيرة وجبات طعامه وأغناها فائدة، ونظراً للعمل المستمر في الأرض كنت تجد الأجسام خفيفة رشيقة، ولا يوجد ذاك الترهل في الأجساد التي تستكين للراحة، بل تخلصها الحركة والعمل المتواصل من كل ما يمكن أن يتراكم عليها. فقلما تتواجد إصابات قلبية أو سكري رغم تقدم العمر».

كان اللحم ومآكله قليلاً، وقد كان ينحصر في الأعياد الاجتماعية أو الدينية مثل "القوزلة" التي هي احتفال عيد رأس السنة الميلادية الأوغاريتي، كذلك يسلق البيض ويلون في عيد "الزهورية" و"الرابع" وهو مطلع الربيع في 17 نيسان من كل عام، أما عيد "الأضحى" فقد كان مخصصاً لطبخ البرغل مع اللحم، وفيه يوزع على كل الفقراء والمحتاجين وفي قطاع واسع من كل المناطق، ومثله "عيد رمضان" أو عيد "الفطر" كما صار يسمى حالياً (من مشاهداتي العيانية حقبة الثمانينيات).

الشاي على الحطب

لا تختلف طقوس الشرب عن الأكل كثيراً، فعمودها دوماً هو "الشكر"، فالماء ليس بأقل أهمية من الطعام، وحتى على الطعام فإن شرب الماء له طقسه الاجتماعي وهو اليوم في طور الانقراض، يذكر الباحث "برهان حيدر" أن تعبئة قربة الماء (الراوي) أقرب ما تكون إلى طقس اجتماعي "يتم تناقل الأخبار والشائعات فيه على النبع، والسيدات هن من يقمن بهذه المهمة عادة صباحاً أو مع مغيب الشمس، وتستخدمن مياهه عادة للجلي والطبخ و"النفخ"، أما مياه الشرب فكانت الجرار الفخارية من يقوم بالمهمة وهي شبه حصرية للصبايا إلى العين القريبة عادة من القرية".

من طقوس الشرب بضعة "مواويل عتابا" ترافق الذاهبات إلى الينابيع، أو الآبار، يقول أحدها:

"حملت الجرة ونزلت عالرامي.... ودخل اللي خلق ما أحلى هالقامي

عا راس خديدا موجودي علامي.... مثل الثريا بين النجوما"

هذه الصور لم يتبق منها سوى القليل مع انتشار الحنفيات التي جرفت معها طقوساً كثيرة تغيرت فيها صورة الحياة في الريف كثيراً، العلاقة مع المياه وقدسيتها المتجلية في منع البصاق في أي نبع مثلاً، وفي الصلاة على كل إناء ماء، والقرب من المياه الجارية تعد "صدقة".

يقول مثل شعبي: "العيش مخبوز، والميه بالكوز"، حنيناً إلى ذاك الزمن المفقود.