قضى أغلب سنوات حياته في ظل "أرواد" عاشقاً لها، وباحثاً في أعماقها عن سر مستعصٍ على النسيان، وموثقاً حياتها وإبداعها في "خيال الظل" وفي السفن الفينيقية التي صدرتها للعالم.

الملخص: قضى أغلب سنوات حياته في ظل "أرواد" عاشقاً لها، وباحثاً في أعماقها عن سر مستعصٍ على النسيان، وموثقاً حياتها وإبداعها في "خيال الظل" وفي السفن الفينيقية التي صدرتها للعالم.

إن الجهد الذي بذله "حسين حجازي"، وهو هاوٍ وقليل الإمكانيات، أمدنا بكنز ثمين من النصوص كان ينبغي أن تتضافر جهود جماعية وخلال سنوات لتقصيها وتسجيلها وإنقاذها من عاديات الاندثار

توزعت اهتمامات "حسين سليم حجازي" على ثلاثة جوانب رئيسية في حياته كلها، كما يشير الدكتور "نور الدين ناصر" الذي التقته مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 5 شباط 2015، أثناء تقديمه محاضرة عن الراحل في ثقافي "طرطوس" تحت عنوان "رائد العاديات البحرية حسين حجازي"، ويقول: «كانت أول هواياته صيد السمك، فهذه الهواية استغرقت منه حياته وكانت تمثل له طقساً مميزاً يبدأ قبيل شروق الشمس ولا ينتهي مع عودته خالياً من صيده الذي يوزعه على الأصدقاء والأقارب في الطريق، بهذه الروح بقي عقوداً يلامس الهواية حتى غدا محترفاً أكثر من كثيرين من الصيادين المحترفين.

غلاف كتاب الآثار البحرية

ثاني اهتماماته كان "خيال الظل" أو ما كان يسمى وقتها (الكريكيزة) نسبة لشخصيتي (كركوز وعيواظ)، وقد رافق وهو في "أرواد"، المعلم "سليمان" أحد أهم مخايلي "خيال الظل" في الساحل السوري، الذي كان يأتي من "لبنان" كل عام مع حلول فصل الشتاء ليعرض في مقاهي جزيرة "أرواد"، حيث يكون الصيادون في موسم هو أقرب إلى العطالة عن العمل، وغدا "حسين" نتيجة ملازمته للمعلم "سليمان" لسنوات طويلة، واحداً من أكبر حفّاظ النصوص التي كان يجري تقديمها في ذلك الوقت، وكثيراً ما كان يعتري زملاءه العجب عندما كان يخبرهم باسم (الفصل) الذي كان سيجري تقديمه في المساء لمجرد رؤية الشخوص المعلقة على خيمة العرض، لقد كان لهذا الأمر دوره الأكيد في الجهد العظيم الذي بذله فيما بعد في تحقيق وتوثيق وحفظ نصوص هذا الفن الرائع».

ويضيف: «ثالث اهتماماته كانت البحوث البحرية والتاريخ الغارق للساحل السوري، وعبر جهود فردية لنصف قرن انطلق الرجل في رحلاته البحرية فوق وتحت الماء بغية تقديم الصورة الحقيقية لحضارة هذا الساحل، فكانت أولى الثمار سلسلة كتب حملت عنوان "من هنا انطلقت الحضارة"، وأولها كتاب "جزيرة أرواد والجذور الفينيقية" (صدر عن دار أماني للطباعة والنشر والتوزيع)، ولحقه كتابه الثاني "الموانئ والمرافئ والمراسي في ساحل القطر العربي السوري" عن نفس الدار، وآخر ما كتبه في هذه السلسة كان كتابه الأجمل "الآثار البحرية: أضواء جديدة على حياة بحار على سفينة قديمة" عن نفس الدار في مدينة "طرطوس"، عام 1993».

الدكتور نور الدين ناصر

وعن كتابه الأخير يتحدث الدكتور "ناصر": «معتمداً على خبرته الشخصية التي تكونت من احتكاكه بالبحارة في طفولته، ومكنته من التعرف إلى طبيعة الحياة البحرية، فقد قدم في هذا الكتاب تعريفاً للحياة البحرية القديمة والعلاقات بين البحارة على متن السفن، معتمداً كذلك على بعض التجهيزات البسيطة من أدوات غطس ومركب صيد وأدوات أخرى احتاجها في أعماله التنقيبية تحت سطح البحر، التي مكنته من استخراج القطع والأدوات والأواني القديمة، وبدراسة كل قطعة على حدة وفحصها وتحليلها والتدقيق فيها تمكن من التوصل إلى معرفة عامة وشاملة عن كيفية الحياة وأسلوب التعامل والأدوات المستخدمة للمعيشة في الأزمان الغابرة. إن هذا الكتاب عبارة عن دراسات بحرية علمية معتمدة على مشاهد حضارية مغمورة تحت سطح البحر وعلى لقى أثرية منتشلة من أعماق مياه الساحل السوري، ومنفذة بمساعٍ فردية ومجهود شخصي وتمويل خاص».

وفي لقاء مع ابنته الآنسة "كندة حجازي" تحدثت عن مسيرة حياة والداها وتقول: «ولد "حسين سليم حجازي" في جزيرة "أرواد" عام 1938، وفيها أتم دراسته الابتدائية متفتحاً في وعيه على موجها وصخرها وأبراجها وسورها التاريخي، وعلى سفر والده الدائم على ظهر سفينته "اليمامة" التي كانت لها سمعتها المنتشرة بين بحارة المتوسط وقتها.

حجازي في لقاء رسمي مع وفد أجنبي

حصل على الشهادة الابتدائية بتفوق عام 1951؛ وهو ما أهله لنيل منحة داخلية لدراسة الإعدادية في ثانوية "جول جمال" في "اللاذقية"، وبعد انتهاء الإعدادية نال الثانوية من ثانوية "مصطفى خلوف" في "طرطوس"، وانتسب بعد ذلك إلى الكلية البحرية حيث أوفد إلى "الإسكندرية" لمتابعة تعليمه، إلا أن انفصال الوحدة بين "سورية" و"مصر" عام 1961 أعاده إلى "جبلة" حيث أكمل في الكلية البحرية التي أنشئت وقتها فيها، وتخرج فيها برتبة ملازم بحري عام 1963».

في اشتغاله الموازي على مسرح خيال الظل أنجز الراحل عدداً من الكتب المهمة قيض لواحد منها الصدور عن وزارة الثقافة بعنوان "خيال الظل وأصل المسرح العربي"، قدم له الراحل "سعد الله ونوس" الذي تابع معه نشر عدد من فصول "مسرح الظل لحجازي" في أعداد مجلة "الحياة المسرحية" أواخر السبعينيات، وقد احتفى الراحل "ونوس" بعمل "حجازي" قائلاً: «إن الجهد الذي بذله "حسين حجازي"، وهو هاوٍ وقليل الإمكانيات، أمدنا بكنز ثمين من النصوص كان ينبغي أن تتضافر جهود جماعية وخلال سنوات لتقصيها وتسجيلها وإنقاذها من عاديات الاندثار».

يشار إلى أنه لم يقيض للمجلدات الستة المتبقية أن تبصر النور لأسباب كثيرة، وهي إلى اليوم ما تزال مخطوطة، ذلك لأن اهتمامه في سنوات حياته الأخيرة انصب على إنشاء متحف أثري شعبي، يضم جميع القطع الأثرية البحرية التي انتشلها من أعماق البحر، وكل ما يتعلق بخيال الظل من نصوص وشخوص وسواها، غير أن المنيّة وافته في عام 1997، وهو في قمة عطائه، دون أن يتاح لأي أحد متابعة ما كان قد بدأ به.

من أبرز مكتشفات الراحل الحضارية توثيقه لطريقة استخراج المياه العذبة من ينابيع البحر قرب "أرواد" عبر تقنية "القمع المقلوب" التي استخدمها الفينيقيون السوريون لأول مرة في التاريخ، كذلك طرح فكرةً بدت في حينها غريبة؛ وهي أن جزيرة "أرواد" هي جزيرة صناعية وليست طبيعية، وقدم لذلك الأدلة العملية والعلمية، ولذلك حديث سنتناوله قريباً.