الإنجازات المعمارية التي تركها الأيوبيون خلال حكمهم لمدينة "حلب" لاتزال تلقى الاهتمام، فهناك العديد من المباني الدينية والعلمية والعسكرية التي تؤكد تقدم فنونهم العمرانية والهندسية في تلك الفترة.

يقول السيد "أحمد جلبجي" أحد أبناء المدينة: «لطالما حدثنا أهلنا كلما مررنا بجانب هذه المباني عن قصتها، حتى غدت جزءاً لا يتجزأ من واقعنا وبتنا نحن بدورنا ننقل القصص والحكايات التي تتعلق بهذه المباني إلى أولادنا وأحفادنا، لأننا بتنا نشعر بمسؤوليتنا في الحفاظ عليها».

لقد كانت الفترة الأيوبية قصيرة نسبياً في "حلب" حيث لم تبلغ قرناً واحداً ولكنها تركت بصماتها واضحة على فنون العمارة الإسلامية الأخرى

الأستاذ "عبد الله حجّار" مستشار جمعية العاديات للفترات الكلاسيكية يتحدث لموقع eAleppo حول المباني التي تركها الأيوبيون في مدينة "حلب": «عرف الأيوبيون بأعمال التحصين والدفاع وقد تركوا كتابات عديدة تبين قيامهم بترميم الآثار وأبواب المدن والقلاع مثل "قلعة حلب" و"المضيق" و"حارم" و"صلخد" وسواها كما تركوا لنا الخانات التي أنشؤوها على طريق الحج إلى "مكة المكرمة" مثل "خان العروس" شمال "دمشق" بنحو 50 كم عند مفرق بلدة "معلولا"».

المدرسة الشاذبختية

ويتابع حديثه بالقول: «في "حلب" قاموا ببناء العديد من المدارس والمساجد والخانقاهات خارج أسوار المدينة القديمة وداخلها، كما رمموا أبواب المدينة مثل "باب النصر" و"إنطاكية" و"قنسرين" وعُرفوا باستعمال أجزاء الأعمدة الأفقية التي توضع بطول متر واحد في جدران الأبراج ومنحدرات القلاع وبتباعد مترين فيما بينها لتعطيها شكلاً تزيينياً جميلاً وتقاوم في الوقت نفسه انهيار الجدار بالكامل فيما إذا ضرب بأحجار المنجنيقات الضخمة كما استعملوا شرفات إرسال السوائل المحرقة فوق العدو في مداخل الأبراج والقلاع.

تميز الأيوبيون بمآذن مساجدهم المربعة واستعملوا الأحجار الضخمة في البناء ومن مبانيهم خارج أسوار المدينة "مدرسة الفردوس" التي بنتها "ضيفة خاتون" زوجة الملك "الظاهر غازي" و"المدرسة السلطانية البرانية" و"المدرسة الكاملية" و"مدفن الهروي" ومدرسته وجميعها واقعة جنوب الأسوار الجنوبية للمدينة، وهناك "مدرسة ابن العديم" /"الطرنطائية"/ في الجهة الشرقية خارج الأسوار وضريح "الشيخ فارس" في الجهة الشمالية و"مشهد الحسين" في الجهة الغربية.

المطبخ العجمي

وفي داخل الأسوار تم إنجاز "المدرسة السلطانية" أمام القلعة والتي حوت رفات "الظاهر غازي" وربما زوجته، و"خانقاه الفرافرة" و"المدرسة الشاذبختية" و"حمام السلطان" شمال القلعة و"المطبخ العجمي" و"المدرسة الشرفية" و"ضريح السهروردي" و"المدرسة الأتابكية" التي بنيت لتضم رفات الأتابك "طغريل" لكنه لم يدفن فيها، ولهذا الأتابك وهو من أصل أرمني فضل كبير على معظم مباني "حلب" الأيوبية التي بنيت في زمنه.

ولا ننسى فضل "الظاهر غازي" الذي وسع رقعة المدينة داخل الأسوار بتحويله خندق الروم الشرقي عن طريق تعميقه وبناء الأبراج الدفاعية فيه إلى سور المدينة الشرقي وبذلك أصبحت القلعة داخل أسوار المدينة بعدما كانت مهيمنة على سورها الشرقي، كما قام "الظاهر غازي" ببناء قصر في "قلعة حلب" سماه "قصر العز" في العام 1193 م وإثر حريق العام 1212 م بنى "دار الشموس" فيها، كما سعى الأيوبيون منذ أيام "الظاهر غازي" إلى ترميم "قناة حيلان" وإيصال المياه إلى القلعة ومعظم الدور داخل الأسواق وخارجها.

قصر الملك غازي في قلعة حلب

لقد نشطت مع الأيوبيين بدايات التجارة بين البحر المتوسط والشرق مروراً بحلب محطة التقاء طرق المواصلات وطريق الحرير حتى مدن ايطالية المستقلة ذات الأساطيل البحرية كالبندقية وجنوة وباري وبيزا».

ويختم "حجار": «لقد كانت الفترة الأيوبية قصيرة نسبياً في "حلب" حيث لم تبلغ قرناً واحداً ولكنها تركت بصماتها واضحة على فنون العمارة الإسلامية الأخرى».

ويقول الأستاذ "عامر رشيد مبيض" مؤرخ "حلب" المعاصر: «حينما أصبح "الظاهر غازي" ملكاً على "حلب" قام بنهضة عمرانية شاملة بدأت في العام 1192 م وانتهت في العام 1214 م وبلغت تكاليفها في "قلعة حلب" 50 ألف دينار ذهبي حيث أمر بتوسعة خندق القلعة ثم أمر بالحفر جانب الميدان وعندما وصل الحفر حتى مستوى المياه الجوفية أمر ببناء الأعمدة الحجرية الثمانية من قاع الخندق إلى مستوى أرض الميدان ووضع على الركائز عوارض من خشب شجر التوت وجذوع الدلب والسنديان فعشّق أطرافها بعضاً على بعض وجعله طريقاً ممتداً إلى تل القلعة.

إنّ البرجين الضخمين الشرقي والغربي لمدخل القلعة كانا من جملة النشاط العمراني الذي قام به الملك "الظاهر غازي" فبعد أن فصل سور "حلب" عن القلعة ووسع الخندق وبنى ركائز حجرية أمر ببناء برجين ضخمين عاليين لا مثيل لهما يصلان إلى مستوى الأسوار العلوية للقلعة، إنّ الواجهة الجنوبية لمدخل القلعة /البرجان الضخمان/ من الأسفل وحتى عقد قوس الباب والتي تتميز بالحجارة الهرقلية هي أيوبية من بناء الملك "غازي".

كما قام بتبليط منحدر القلعة /تل القلعة/ ببلاطات حجرية واستخدم فيها أحجار زاوية لزيادة صلابة المنحدر كما بنى في القلعة العديد من الدور والحمامات ومراكز لخدمة الإدارة العسكرية في القلعة».

وتتحدث المهندسة "ياسمين مستت" مديرة "قلعة حلب" حول البصمة الأيوبية في القلعة بالقول: «في العهد الأيوبي خلال القرن 13 م بلغت القلعة أفضل حالاتها العسكرية حيث قام "الغازي بن صلاح الدين" بتجديد بناء المدخل وبناء الباشورة كما بنى فيها القصر والجامع والمجمع الملكي وغيرها.

أمر "الغازي" بحفر الخندق حول القلعة وكان يملأ بالماء وقت الحصار كحاجز دفاعي كما بنى الباشورة في العام 1182 -1183م لعرقلة وصول الأعداء لداخل القلعة وجعل مدخلها جانبياً لمنع آلة رأس الكبش من دك الباب، كما بنى البوابات الحديدية الثلاثة "باب الحيات" و"الأسدين الضاحك والباكي"، كما بنى الجامع الكبير ذا المئذنة الأيوبية المربعة وشيد "الخزان الأيوبي" لتجميع مياه الأمطار فيه لاستخدامها أثناء الحصار كما قام ببناء "الساتورة الحلوة" وهي عبارة عن بئر عميق تتصل بقناة "حلب" من الشمال بأنابيب تحت الأرض وتسير بالخندق حتى تصل إلى البرج الشمالي مارة تحته حيث يصب الماء الوارد في الأنابيب في مجرى واسع يصب في الساتورة، وبنى "القصر الملكي" على أنقاض ثلاثة قصور زنكية».

وأخيراً تقول: «أما "الحمام الملكي" فقد بني في عصر الملك الناصر "يوسف الثاني" حفيد "الظاهر غازي" وهناك "دار الأسلحة" /"الزردخانة"/ ويعود بناؤها إلى الفترة الأيوبية وكذلك الباب السري الذي يقود إلى ممرين سريين يمر أحدهما تحت الخندق باتجاه المدينة والآخر يبدأ من عند الساتورة ليتصل بقناة "حلب"».

من الجدير بالذكر أن السلالة الأيوبية تنسب إلى "نجم الدين أيوب" والد "صلاح الدين يوسف" الذي رافق عمه "أسد الدين شيركوه" في الحملة التي جاء فيها الزنكيون لمساعدة أهل "حلب" ضد هجمات الفرنجة /الصليبيين/ وقد سلم "عماد الدين زنكي" "بعلبك" عند فتحها إلى "أيوب" في العام 1140 م وكان "أيوب" ذا عقل راجح وحسن السيرة وفي "بعلبك" ترعرع "صلاح الدين" المولود في تكريت في العام 1138 م.

وبوفاة "نور الدين زنكي" في العام 1174 م خلفه ولده "الصالح إسماعيل" وعمره 11 عاماً وعندما توفي في العام 1181 م تسلم مدينة "حلب" "عماد الدين زنكي بن مودود" فجاء "صلاح الدين الأيوبي" بجيش كبير وأعطى "عماد الدين" منطقة "سنجار" وبعض المدن بدلاً من "حلب" وقال "صلاح الدين" حينها جملته الشهيرة: الآن تبينت أنني أملك البلاد وعلمت أن ملكي قد استقر وثبت.

لقد سلم "صلاح الدين" مدينة "حلب" في البدء إلى أخيه "الملك العادل" ثم أعطاها لولده "الظاهر غازي" في العام 1186 م والذي اتخذ لقب "سلطان" وبعد وفاة والده في العام 1193 م تزوج من ابنتي عمه "الملك العادل" "غازية خاتون" ثم "ضيفة خاتون" التي ولدت له "الملك العزيز" في العام 1213 م، وفي العام 1216 م توفي "الظاهر غازي" فخلفه ولده "محمد العزيز" وبعد وفاته في العام 1236 م خلفه ابنه الملك الناصر "يوسف الثاني" وكانت جدته "ضيفة خاتون" وصية عليه وقد قتله "هولاكو" في "تبريز" في العام 1260 م وبذلك انتهت الدولة الأيوبية التي امتدت بين 1186 -1260 م وذلك على أيدي "المغول".