لم يكن حكمه للعالم في يوم من الأيام وليد مصادفة، فكل التفاصيل التي مرت في طفولته وريعان شبابه تدل على ولادة فارس لا يشق له غبار، وحتى عندما استلم مقاليد الحكم في الإمبراطورية العظمى أثبت عروبيته عندما قرر بناء مدينته الأم على شاكلة "روما"، فلا يمر يوم في المدينة الخالدة إلا وتجد ما يدل على وفائه لها، وعظمة ما صنعته يداه لها، إنه "فيليب العربي".

كانت ولادته في "شهبا" عام 204 م، تلك القرية الصغيرة في عهد العرب الأنباط في القرن الأول ق.م، حيث نشأ ضمن بيئةٍ عربيةٍ متميزةٍ بجمال طبيعتها وصفاء هوائها، فمارس رياضة الفروسية ما جعله متميزاً بقوة الجسد وصحة الإنسان البدنية، وقد أسهمت ظروف البيئة المختلفة وأحداث العصر في تكوين طباعه ونمو شخصيته وقوة إرادته والرغبة في تحقيق تطلعاته وذلك عن طريق الخدمة العسكرية في الجيش الروماني آنذاك.

شهدت الفترة المسيحية عهداً من التسامح الديني، وتمتع المسيحيون بالحماية في عصر الإمبراطور "فيليب"، بعد أن كانوا يمارسون طقوسهم وعبادتهم في الكهوف والمغاور والدياميس في جو من الخوف والاضطهاد، حتى إن بعض المؤرخين وصفوا الإمبراطور "فيليب" بأنه كان مسيحياً لكن الكثير من المؤرخين كانوا يشكون في صحة ذلك

كان والده أحد الشيوخ العرب من القبائل العربية التي أقامت في منطقة "اللجاة" وغيرها من المناطق المجاورة، وقد أخذت أهميتها تتزايد ويتسع نفوذها بتزايد عدد أفرادها وقدراتهم القتالية وفعالياتهم الاقتصادية المختلفة، حتى أصبحت هذه القبائل قوة هامة لها وزنها الكبير في المنطقة، ما جعلها تحل محل سلطة العرب الأنباط الذين قضى عليهم الرومان عام 106 م على يد القائد "كورنيليوس بالما" في عهد الإمبراطور "تراجان" 92-117 م وأسس القائد "بالما" الولاية العربية متخذاً مدينة "بصرى" عاصمة لها.

المعبد الذي بناه فيليب في شهبا

يقول المهندس "وسيم الشعراني" مدير دائرة آثار "السويداء": «لقد كان الكثير من المواطنين في سورية وغيرها في العصر الروماني يلقبون أنفسهم بلقب روماني وذلك بعد أن منحتهم الرعوية الرومانية في عهد الإمبراطور "كاراكالا" 198-217 م إلى كل المواطنين في الإمبراطورية الرومانية، وهكذا فقد تلقب والد "فيليب" العربي باسم "جوليوس مارينوس" وعرف فيليب باسم "ماركوس جوليوس فيليبوس".

تميز "فيليب" بآمال وأمنيات وطموحات وتطلعات اعتقد بأن التحاقه بالجيش الروماني من شأنه أن يحققها، فالتحق به مثل كثير من مواطنيه الشباب عصرئذ لإرضاء طموحه وتطلعاته ورغبته في الوصول إلى السلطة والشعور بالميل إلى حب الحرية وممارستها،

مسرح شهبا الروماني أيام فيليب

وكان تكاثر أعداد الشباب العرب في جيش الشرق الروماني قد جعل هذا الجيش ليس له في الواقع من الصبغة الرومانية سوى الاسم فقط، لأن معظم عناصره كانوا من أبناء هذه المنطقة العربية. اتصف "فيليب" بالجرأة والشجاعة والإقدام والرجولة والتعاون والتضامن والمروءة والنجدة وغيرها من الصفات العربية التي يتميز بها أبناء بيئته، وقد حققت له هذه الصفات سرعة التدرج والارتقاء في مراتب الجيش. الروماني حتى أصبح أحد أبرز قادة الحرس الإمبراطوري في عهد الإمبراطور "جورديان الأول" عام 238 م، ومن بعده ابن أخيه الإمبراطور "جورديان الثالث" 238-244، وبعد وفاة قائد الحرس الإمبراطوري "تيميسيثيوس" عام 243، شعر الإمبراطور "جورديان الثالث" بخسارة كبيرة بوفاته، ما جعله يبحث عن بديل له، يتمتع بالصفات والمؤهلات العسكرية المطلوبة، فلم يجد أفضل من "فيليب العربي"، فعينه في هذا المنصب».

لم يكن وصول "فيليب" إلى سدة العرش أمراً عادياً، غير أنه متوقعاً في ظل الظروف التي عاشها هناك، أما كيف جرى ذلك فيؤكد "الشعراني" بالقول: «اعتاد جنود الجيش الروماني في بداية القرن الثالث على التمرد، وفرض إرادتهم بقوتهم نتيجة تزايد شعورهم بأهميتهم، وقلة انضباطهم، وقد اغتنموا فرصة قلة المؤن والإمدادات اللازمة للجيش، وضعف شخصية الإمبراطور الشاب "جورديان" وقلة خبرته العسكرية، ما جعلهم يثورون ضده، ويقضون على حكمه وحياته، في وقت كان فيه الإمبراطور يستعد لقتال الفرس الساسانيين، ويفكر بالزحف نحو عاصمتهم "طيسفون" في أواخر شهر شباط عام 244، حيث نادوا بقائد الحرس الإمبراطوري "فيليب" إمبراطوراً على عرش الإمبراطورية الرومانية، لكن "فيليب" رأى أن من واجبه إحاطة مجلس الشيوخ في "روما" علماً بنبأ اغتيال الإمبراطور "جورديان الثالث" وأرسل كتاباً رسمياً تحدث فيه عن نبأ موت الإمبراطور وحيا ذكراه ومآثره بعبارات مألوفة ومناسبة، واهتم "فيليب" بقضايا الجيش الروماني وقتال الفرس الساسانيين ووجوب اعتراف مجلس الشيوخ في "روما" به إمبراطوراً، وشعر بوجوب القيام بإجراءات أولية وسريعة وحسن مواجهة مختلف الصعوبات والمشاكل الماثلة أمامه.

شارع البلاط الذي ما زال على حاله

كان الجيش الروماني آنذاك يتمتع بنفوذ قوي جداً، وبعدما تنادى الجنود بقائد الحرس الإمبراطوري "فيليب" امبراطوراً لم يجد مجلس الشيوخ في "روما" بداً من تلبية طلب الجيش والاعتراف رسمياً بقائده إمبراطوراً جديداً بعد "جورديان"، وكان مجلس الشيوخ قد فقد نفوذه منذ مدة بعيدة.

رأى الإمبراطور الجديد أن الأوضاع المضطربة في أنحاء الإمبراطورية الرومانية تتطلب توقيع معاهدة صلح مع "شابور الأول" ملك الفرس الساسانيين، وذلك لوضع حد لتلك الحروب المستمرة بين الرومان والفرس منذ مدة بعيدة، فقام بالموافقة على توقيع المعاهدة في شهر آذار عام 244 مما جعله موضع نقد الناقدين، وبعد اطمئنانه على أمن وسلامة الإمبراطورية في جبهتها الشرقية، اتجه من ساحات القتال في حوض الفرات الأوسط بين مدينتي "دورا أوروبوس" و"قرقيسيا" إلى عاصمة سورية آنذاك مدينة "أنطاكية" في شهر نيسان عام 244، ويذكر بعض المؤرخين الكنسيين ومنهم "سويريوس يعقوب توما" أن الإمبراطور "فيليب" وصل إلى "أنطاكية" يوم السبت وكان المسيحيون يومئذٍ يحتفلون بعيد الفصح ليلاً، تقدم منه القديس "بابولا" وأجلسه في أحد مقاعد التائبين والموعوظين، فاعتبر موقف هذا القديس متميزاً بالجرأة الأدبية، حيث سكت دور سك النقود في "أنطاكية" من يومها نقوداً باسمه، على وجهها صورة الإمبراطور النصفية الجانبية، يعلو رأسه تاج الإكليل الإمبراطوري، وتحيط بصورته كتابة تتضمن اسمه وألقابه الإمبراطورية، وعلى ظهرها صورة وكتابة خلدت ذكرى الصلح مع الفرس الساسانيين بالكتابة اللاتينية.

غادر الإمبراطور "فيليب" مدينة "أنطاكية" متابعاً سفره بحراً إلى "روما" وكان جميع المسؤولين هناك قد انتظموا واستعدوا لاستقبال الإمبراطور الجديد فيها، ومنذ وصوله أدرك بحكمته أهمية مجلس الشيوخ كمؤسسة رسمية هامة في الإمبراطورية الرومانية لها دورها الكبير في الاستقرار والازدهار، وكانت الفتن والاضطرابات وتدخل فرق الجيش، وضعف الأباطرة، السبب في سلب مجلس الشيوخ كثيراً من صلاحياته في العهود السابقة، ما أضعفه وشل فعالياته، فقد رأى الإمبراطور أنه لا بد من إعادة صلاحيات المجلس إليه ليقوم بمهماته ويتحمل مسؤولياته، فكان هذا الإنجاز الهام قد أثار شعور الارتياح في نفوس أعضاء المجلس في "روما"، واعتبر هذا الإجراء بمثابة صفحة جديدة في العلاقات بين الإمبراطور ومجلس الشيوخ».

كانت الحكمة التي اعتمدها الإمبراطور الجديد في اعتماده بالحكم على مجلس الشيوخ، واكتساب ثقة الشعب تدل على عظمته وفكره المتقد، حيث أدرك النتائج الخطيرة من جراء الاعتماد على قوة الجيش وحدها في تسيير أمور وحكم الإمبراطورية.

يقول "الشعراني": «رأى "فيليب" أن من الحكمة الاعتماد على الشرعية في الحكم ودعم مجلس الشيوخ وكسب تأييد الطبقات الشعبية، فكان هذا الموقف من أهم أسباب ولاء مختلف الطبقات له وتأييدها إياه، وبادر للقيام بمختلف الإصلاحات التي شملت مختلف ميادين الحياة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها مما جعل عهده بمثابة رد فعل قوي ضد طابع الظلم والتعسف في العهود الرومانية السابقة. وتزوج عام 237 من الفتاة "مارثيا أوتاسيليا سيفيرا" وأنجبا مولوداً عُرف باسم "فيليب الثاني"، وكانت صورتها تظهر على النقود التي سكت في مختلف المدن مثل "دمشق" و"فيليبوبوليس" و"بعلبك" و"نابلس" وغيرها، كما أخذ الإمبراطور بعين الاعتبار ضرورة إعداد ابنه للمشاركة بالحكم فمنحه لقب قنصل وقيصر وأوغست عام 147 وكان عمره حوالي عشر سنوات كما أظهرت النقود صورته وألقابه.

كانت غزوات القبائل المتوحشة وهجماتها على حدود الإمبراطورية مثار قلق الإمبراطور "فيليب"، ما جعله يقود الجيش بنفسه لمحاربتهم وصدهم في مناطق أوروبا الوسطى خلال عامي 245- 246. ولقبه الجميع (غازي الجرمان) و(غازي الكاربيين) وعند عودته من ساحات القتال أقيمت على شرف انتصاره الاحتفالات والأفراح، كما قضى على بعض الحركات الأخرى التي قام بها ضده كل من "يوتوبيان" و"باكاتيان" عام 248».

وفي نيسان من عام /244/ أقام الإمبراطور "فيليب" الاحتفالات في "روما" بمناسبة مرور ألف عام على تأسيسها فكان ذلك حدثاً تاريخياً هاماً، وعمت الأفراح مختلف أرجاء الإمبراطورية، وأعدت أجمل الألعاب وحفلات الرقص والموسيقا وصراع الحيوانات المختلفة في ملاعب السيرك، وتم إحياء الألعاب الرياضية الكبرى والتي كان قدماء الرومان يمارسونها كل مئة عام، وتحدث عن هذه الذكرى الكثير من المؤرخين حيث اعتبرت حدثاً تاريخياً متميزاً.

أما فيما يتعلق بفترة الديانة المسيحية هناك، فقال المطران "سابا إسبر" مطران "بصرى وجبل العرب والجولان" لموقع eSuweda : «شهدت الفترة المسيحية عهداً من التسامح الديني، وتمتع المسيحيون بالحماية في عصر الإمبراطور "فيليب"، بعد أن كانوا يمارسون طقوسهم وعبادتهم في الكهوف والمغاور والدياميس في جو من الخوف والاضطهاد، حتى إن بعض المؤرخين وصفوا الإمبراطور "فيليب" بأنه كان مسيحياً لكن الكثير من المؤرخين كانوا يشكون في صحة ذلك».

مات الإمبراطور "فيليب" ميتة غير سارة لمحبيه، وإن كان شرف العسكري أن يموت في أرض المعركة، غير أنه كان على موعد معه على يد جنوده، بل قائد جنده في معركة غير متكافئة، يقول الباحث في التاريخ ومؤلف كتاب "شهبا الحضارة والتاريخ" الأستاذ "جمال أبو جهجاه": «في نهاية عهده بدأت الفتن والاضطرابات بالظهور من جديد، حيث أخذ بعض المارقين يستعينون بأعداء "روما" من قبائل القوطيين المتوحشين ضد العرش الإمبراطوري، وعين الإمبراطور "فيليب" القائد "دوكيوس" عام 249 قائداً على فرق جيشه وعهد إليه مهمة القضاء على الفتن، لكن القائد "دوكيوس" أثناء تصديه لقبائل القوطيين نادى به الجيش امبراطوراً، وذلك بسبب نجاحه بالتصدي لتلك القبائل في مناطق "الدانوب"، ما جعل الإمبراطور "فيليب" يفقد ثقته به وقاد جيشاً بنفسه لمحاربته وجنوده المتمردين، والتقى الجيشان قرب مدينة "فيرونا" الإيطالية وانتهت المعركة بمقتل الإمبراطور "فيليب" وابنه عام 249 م».