المرأة شريكة الرجل بكل حيثيات حياته، ويرى العذريون بأن لها نصيب من الروح, فلا غرابة إذا ما شاركته أشعاره وأغانيه, هذه الظاهرة لم تغب عن الشعر الشعبي الرقي.

ولم تكتفِ الأنثى بأن تكون موضوع الشعر فحسب، بل أنها شاركته النظم أيضاً. وتصعب على متقفي الشعر النسوي الرقي مهمته، كون النساء الرقيات ينظمن الشعر، ولا يصرحن به, ونستعرض فيما يلي بعض الأشعار النسوية في ألوان ("النايل", "السويحلي", "اللكاحي")

أ . النايل :

يتسم "النايل" بالفكرة العابرة الخاطفة، وهو سهل النظم من حيث يكتب على البحر البسيط، وهو بيت بشطرين مقفيين بقافية واحدة. ولولا ما نظمه الشاعر "محمود الذخيرة"، ورفده الشاعر "موسى الحمد" للنايل، لغلب الطابع الأنثوي على هذا اللون في مدينة "الرقة". فلو وضعنا آثار "محمود الذخيرة"، و"موسى الحمد" جانباً لكان غالب "النايل" من نظم النساء" وهذا الكلام قابل لإثبات العكس, لكن أغلب المعاني والألفاظ والأفكار الواردة في "النايل" تدل على أنثويته.

فتاة رقية

اركض وراهم ركض واخنق اجراس مطواحي/ ثوبي تبلل عرق من طول مشواحي

فبإضافة ياء المتكلم إلى كلمة "مطواح" (وهو أحد أشكال القلائد الذهبية التي تتزين بها النساء) تدل على أنثوية البيت. ويمكن أن نميزه أيضا من خلال لباس الموصوف فإن كان (هباري وأساور أو تركية) فالمتحدث رجل، أما إذا كان لباس الموصوف "رويشة" أو "بشة" فالمتحدثة أنثى:

لبسم رويشة حلب وقطوش لجلاهم/ يعزيزين النفس للموت ماسلاهم

وأيضاً:

بشتك جناح الرخم بكل طايلة تومي/ تستاهلون الحزن ياذيب الحزومي

وقد تطفو العاطفة الأنثوية على الكلمة الشعرية فتشير إلى هوية البيت:

لاحارب الحاربوك واجتل على شانك/ وأحط ذرعاني درك واسند عن أركانك

ونلمس في بعض الأبيات حاجة الأنثى لمن تعيش بكنفه:

لمن نويت تعبر وصيت من بينا؟/ مثل اليتامى بغرب عد من مخلينا؟

وتنفرد النساء بأحد الألوان اللحنية للنايل الذي يحمل اسم "نايل الورَّادات" (أي جالبات الماء)، ويمتاز هذا اللون اللحني بالسرعة، ومن حيث أن أغلب أبيات "النايل" عاطفتها ممزوجة بالحزن, وتظهر في كلماته المعاناة والشوق، والألم، والحسرة. وينسجم ذلك مع طبيعة الأنثى وسيكولوجيتها، لذلك كان أغلبه من نظم النساء.

وتقول إحدى روايات أصول "النايل"، أنه من نظم فتاة قالته بمدح رجل اسمه "نايل"، مما يشير إلى هويته الأنثوية.

ب . "السويحلي":

يقترب "السويحلي" من "النايل" في المعاني، والمواضيع لكنهما يفترقان في موضعين، فقافية "النايل" في آخر الشطر، بينما قافية "السويحلي" في منتصفه. و"النايل" يغنى من الرجال أكثر من النساء، بينما "السويحلي" يأخذ الصورة العكسية، لأنه أرَّق أداءً وينسجم مع الصوت الأنثوي أكثر، ومن الباحثين من أورد "السويحلي" تحت اسم "النايل" المقلوب، وهذه التسمية منتقدة لأنهما يفترقان في الوزن العروضي، وأغلب "السويحلي" في مدينة "الرقة" من نظم أنثوي، وتدل على ذلك كلماته ومعانيه:

بالسيف قوة عالعفن جابوني/ ما هي مرة عن الزين تنحوني

أجبروها عنوة على من لا تهواه بالسيف، وأبعدوها عمن تحب، فالأنثى هي التي تجبر، وقد تكون طريقة الحزن دليلاً على الأنثوية. فصباغة الثياب باللون الأسود صورة لا تنطبق إلا على النساء:

يا ثوب حزني أجرد وأزيدك نيل/ اخوي وابني ما هم بغلاة الزين

وتظهر بين كلماته بعض الأدوات الأنثوية (كالمرآة والمرود):

تسبح بالدموع يا مرود عيوني/ تحييه الجموع مثل الملك لوفات

فالمرود أداة للزينة الأنثوية، وتكون الرقة بصورة أكثر بريقاً في "السويحلي":

الله ولحد.. جلة سلامك ليش/ كسر الضلع شد.. كسر القلوب شلون

ويرد به التشبيه الأنثوي:

الله عاليخون.... ما طولنا غياب/ ليلى على مجنون.. ما بكت مثل بكاي

فهي تشبه بكاءها على أحبائها ببكاء "ليلى" على المجنون. وهناك بعض الأغاني الخفيفة ذات الإيقاع الموسيقي السريع، التي تغنى من قبل النساء هي من "السويحلي" فهو قابل للغناء بأكثر من لحن، وكلها ترتبط بالرقة العاطفية، التي تسكن أمامها القلوب الصادقة الوفية.

كما أن أغلب الأغاني المنتشرة في وادي الفرات مأخوذة من "السويحلي" كـ(سودة شلهاني, للناصرية, إهنا يا لحادي)، وأغان كثيرة لا سبيل لحصرها، لكن هذه الكلمة أي "السويحلي"، تقترن باللحن وهو معروف لحناً أكثر منه كلمةً, وربما كان مصدر هذه الكلمة هو اللحن, لأنه يمتاز بالامتداد الطويل للصوت. حيث يبدأ المغني بنبرة غنائية لا يتركها حتى تتلاشى.

جـ - "اللكاحي":

تؤكد أغلب المصادر الشفهية، على أن "اللكاحي" من ابتكار النساء، فلذلك لا غرابة إذا ما وجد بين كلماته كلام أنثوي، ولدى البحث في هذا اللون، والذي يحمل أكثر من تسمية لحنية (يايوم – ساجوري - ولدة)، بالإضافة إلى ما يقترن منه بمطالع الأغاني.

ولو اتبعنا الطريقة ذاتها التي اتبعناها في الألوان السابقة، أي الاستنتاجية، لوجدنا تكافؤاً في النظم بين كلا الجنسين فبقدر ما نظم من الرجال نظم من النساء، واستهدينا على ذلك من خلال استعراض ما يوجد من هذا اللون في مدينة "الرقة"، وللإشارة نجد:

صاحم علي مجنونة كلهم بصوت عالي/ فرقة اهلي ليلة عيد فرقاك شلت حالي

فكلمة مجنونة مؤنثة. ويحدد اللباس بعض الأبيات:

يا ريتني منيعة على كتافك وهدومك/ وإذا عشقت بدالي لا والنبي ما لومك

فالمنيعة للرجل كما له أيضاً (العقال):

ريت العذيمي لاهب ولا لعبن جواري/ قلبي بسود عقالو.. يدمع عيني جاري

ومن خلال الرقة والأنوثة العاطفية نجد:

عذبك درب أهلنا.. يا وليد وش مجيبك/ آني والله عليهم.. اللي قطعوا نصيبك

وأيضاً:

أوميت لك برداني رد الضعن يا حادي/ أسود عليهم قلبي.. مثل لون الهوادي

وهذا اللون هو الأكثر شيوعاً، والأغزر نظماً، والأعم غناءً، في مدينة "الرقة"، لقربه من الحياة، والمعاملات اليومية، ولبعده عن الشجون والأحزان، التي تتسم بها الألوان الأخرى، بالإضافة إلى سهولة نظمه، إذ أنه ذو إيقاع موسيقيّ بسيط.

ولم تقتصر الروعة في الأنثى على ما تكتنزه من جمال وعفاف وحنان وأخلاق، بل وجدناها في شعرها أيضاً، حيث الكلمة العذبة والصورة الجميلة والعاطفة الرقراقة.