بعد أن كانت الصناعة رمز مدينة حلب ومحل فخر واعتزاز أبنائها تاريخياً ، أصبحت اليوم ( الصناعة ) المتهم الأول والكلمة التي تحمل كل معاني الخراب والخطر الذي لا يوفر من شره حجر أو شجر اوبشر!!..

بعد أن كانت الصناعة رمز مدينة حلب ومحل فخر واعتزاز أبنائها تاريخياً ، أصبحت اليوم ( الصناعة ) المتهم الأول والكلمة التي تحمل كل معاني الخراب والخطر الذي لا يوفر من شره حجر أو شجر اوبشر!!..

مالذي تغيير تاريخياً حتى تحولت الصناعة الحلبية من كلمة السر في رخاء المدينة اقتصادياً وشهرتها عربياً وعالمياً ، إلى كلمة السر في كل بلاويها ومصائب أبنائها الذين باتت حتى مجرد كلمة معمل أو مصنع أو أي شيئ يمت للصناعة بصلة يعني لهم (مسجل خطر) يجعلهم يفتحون آذانهم على مضض لسماع الكلمة القادمة حتماً ، وهي كلمة او خبر على أي حال ليس جيداً؟!!

معمل اسمنت المسلمية

سؤال ليس محيراً رغم أن فيه كل الحيرة ، وليس مستغرباً رغم كل ما فيه من غرابة ، وحتى الآن رغم كل السنوات الطويلة التي مرت على طرحه لأول مرة إلا أنه يظل بلا إجابة..

مجرد مثال

يكفي لكي تعرف ، بل وتقتنع بصحة كل ما قيل وردده الحلبيون حول ذلك أن تزور منطقتين فقط لتشاهد معملين لا أكثر...

معمل الشيخ سعيد

المنطقتان هما المسلمية والشيخ سعيد واللتين تحتضنان معملي الإسمنت في هذه المحافظة ، المعملان اللذان يلقي الحلبيون ( وهم محقون ) عليهما باللائمة في كل ما حصل ويحصل لحلب من بلاوي صحية وبيئية وهما كذلك فعلاً.

في السابق كانت منطقتي المسلمية ( شمال ) والشيخ سعيد ( جنوب) منطقتي بساتين ومثلتا دائماً الشريانين الخضر للمحافظة والسلة الغذائية لأبنائها وقبلة المتنزهين الباحثين عن الجمال والصفاء من كل مكان قبل أن يحولهما الإسمنت والصناعات الطفيلية الأخرى إلى بؤرة للكوارث ومصدر للتلوث البيئي والأمراض المستعصية الخطيرة.

مكب القمامة

فبكل سهولة تستطيع ليس بالعين المجردة فقط ، بل وحتى باليد المجردة أن تتلمس وتقبض بكل أريحية على الكمية التي تشاء من الغبار الصادرعن المعملين ، ليس بمحيطهطا فقط ، بل إلى مسافة تصل إلى عدة كيلو مترات ، ناهيك طبعاً عن الرائحة والدخان الذين أصبحا من مفردات الحياة اليومية لسكان هاتين المنطقتين وجوارهما .

هذا بالنسبة للظاهر ، أو الجزء الملموس من المشكلة وما خفي ( رغم أنه لم يعد خافياً) فهو أعظم بكل المقاييس.

مناطق ...كارثية

أردنا أن ننطلق بالحديث عن الواقع البيئي الذي خلفته الصناعة الحلبية من هذين المعملين ( الحكوميين ) لنشكل مدخلاً فقط للحديث الشامل عن الوضع المتردي والخطر جداً على هذا الصعيد في المحافظة التي تعاني حزمة عريضة من المشاكل البيئية التي انعكست ( وهذا طبيعي ) مشاكل صحية وعلى الجميع.

ففي حلب اليوم ورغم مضي ما يكفي من وقت على انطلاقة المدينة الصناعية في الشيخ نجار ، إلا أن خمسة عشر منطقة صناعية تنتشر في أنحاء مختلفة من مدينة حلب وضواحيها وتضم أكثر من عشرة آلاف منشأة صناعية ومجبل زفتي ومعامل الإسمنت إضافة إلى ورشات مبعثرة تقوم بحرق الرصاص ومقالب للنفايات تنفث غاز الميتان وغاز ثاني كبريت الهيدروجين مسببة ما لا حصر له من متاعب بيئية ومشاكل صحية وكوارث انسانية وإقتصادية ضخمة.

وهذه المناطق الصناعية تكاد تشكل طوقاً يلف المحافظة من كل أطرافها ، بل وهناك مناطق صناعية داخل المدينة وبين المناطق السكنية لتؤدي بكل آثارها السلبية إلى نتائج مهولة من خان العسل إلى الراشدين إلى الراموسة إلى الحيدرية إلى الشيخ سعيد إلى السكري إلى تل الزرازير إلى الأنصاري إلى صلاح الدين إلى باب النيرب إلى الفردوس إلى طريق الباب إلى كفر حمرة التي تعاني وبشكل كبير من الأمراض السرطانية وكذلك الشقيف وعين التل والحيدرية وجبرين والمنصورة وكفرداعل ‏إلى المسلمية وغيرها من المحطات الصناعية الحلبية العجيبة الغريبة.

معلوم !!

معظم هذه المناطق كما قلنا كانت أراض زراعية تعرضت لسطو الإغراء المادي والجهل من جهة والإستغلال والتحايل من جهة أخرى لتتحول هذه المناطق الخضراء في سنوات قليلة إلى كتل اسمنتية ومداخن تنفث غازاتها السامة وترمي فضلاتها ومياهها الملوثة لتقتل الحياة السليمة والصحية من حولها .

جرى ذلك ويجري رغم الشكاوي المتكررة والمطالب الكثيرة والإستغاثات والنداءات التي أطلقها الجميع إلى كل مسؤول أو صاحب شأن دون مجيب ، وإن كان من مجيب فلا نتائج ملموسة تخفف على الأقل من الكارثة .

إذ وبعد كل هذه السنوات الطويلة من التدمير (البطيئ السريع) للبئية والصحة والإنسان تحت يافطة الصناعة اقتنع الكثيرون مرغمين أن لا حل جذري ممكن على المدى القريب ، وبالتالي فقد نقلوا معركتهم إلى ساحة أضيق وخففوا من سقف مطالبهم إلى الحد الأدنى لتكون ممكنة التحقيق ومع ذلك فهم لا يجدون من التجاوب إلا القليل.

محطات

فمثلاً أهالي الشيخ سعيد الذين كانوا يطالبون بإزالة هذه المنشآت الخطرة ونقلها إلى مكان يناسبها أصبحت ومنذ سنوات مطالبهم مقتصرة على أن تتوفر في هذه المنشآت محطات المعالجة التي قد تخفف من الأضرار البالغة للمياه الصناعية الملوثة التي تصرفها المعامل في الآراضي عشوائياً مما أدى إلى دمار بيئي كان ضحيته الزراعة ومياه الشرب إلا أنه و للأسف لا زالت المصلحة والمال فوق البيئة والانسان!! ‏

أما سكان منطقة خان العسل فقد ناشدوا المعنيين مراراً وتكراراً لتخليصهم من الملوثات ومخلفات المصانع الضارة بالصحة والبيئة والزراعة والمياه الجوفية حيث تقوم هذه المصانع ( وما أكثرها ) برمي مخلفاتها في الوادي المؤدي إلى منطقة خان العسل وقد وصلت الملوثات إلى البيوت وغمرت الأراضي والساحات وبالرغم من الأضرار الكبيرة والتلوث الذي أصاب المنطقة فان الحلول والمعالجات مازالت غائبة!!

ولحي الراشدين ( القريب ) نصيبه من التلوث من خلال خلط مياه الشرب بالصرف الصحي والإصابات البشرية والأمراض خير دليل على ماوصلت إليه الأمور!!

دراسات ولكن!

لا تتوفر لحلب دراسات بيئية حديثة ، وآخر الإحصائيات تعود إلى العام 2006 حيث أكدت نتائج الدراسات على أن العوالق الهوائية الكلية والعوالق الهوائية التنفسية هي من أهم الملوثات الفعالة التي تؤثر في تدني نوعية الهواء وأوضحت القياسات أن متوسط التراكيز اليومية للعوالق الهوائية الكلية تجاوزت الحدود المسموح بها بحسب المواصفات السورية. ‏

وبالنسبة للملوثات الغازية أشارت القياسات إلى تدني نوعية الهواء الذي أصبح محملاً في بعض المناطق في حلب بتراكيز مرتفعة من أكاسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين وهباب الفحم وغيرها ، وهذه المركبات معروفة بتأثيراتها الصحية وماتسببه من أذى للجهاز التنفسي وتهييج العيون والربو والتهاب القصبات والسعال وغيره.. ‏

كما أشارت نتائج دراسة أولية قصيرة الأمد لتلوث الهواء في مدينة حلب وماحولها من المناطق الصناعية على أن التراكيز الساعية لغاز ثاني أوكسيد الكبريت كانت أعلى من الحدود المسموح بها (الشيخ سعيد والشقيف) .. أيضاً أكاسيد النتروجين مرتفعة بحلب ، أما الضجيج فمستوياته المرتفعة لم تجد حلولاً لها وهذا له أثره على الصحة والعمل .

وفي دراسة قبل عدة أعوام أيضاً لوفد من الاتحاد الأوروبي وبإشراف البرنامج الانمائي للأمم المتحدة بينت القياسات أن تراكيز العوالق الهوائية أعلى من التراكيز المسموح بها من منظمة الصحة العالمية وأوصت الدراسة بإجراء معالجة فورية وتدخل سريع على المعامل ووسائط النقل لتخفيض مستوى الكبريت من محتوى الفيول المستخدم في المعامل كما أن التراكيز الساعية لأوكسيد النتروجين وغاز الكبريت أعلى بعشر مرات من الحدود المسموح بها من قبل منظمة الصحة العالمية...كل هذه التوصيات نسأل أين هي اليوم ، ومن تعامل معها طيلة السنوات الماضية. ‏

أيضاً تقرير أعد قبل سنتين الى أن مياه المنشآت الصناعية في الراموسة والشيخ سعيد من معامل الدباغات وورشات تصنيع الرصاص تحوي مواد ومركبات كيماوية سامة ذات أثر تراكمي مثل الرصاص والزئبق والكروم واضافة الى ضررها بالثروتين النباتية والحيوانية فإنها تضر بالمياه السطحية والمياه الجوفية وهذه المياه بكل ملوثاتها الجرثومية والمعدنية تروى بها المزروعات والخضار.

أسئلة بسيطة

‏ما يجري ليس سراً ، كما أنه ليس ممنوعاً كشفه على أحد ولجان البيئة في محافظة حلب تحتوي أسماء العشرات من المنشآت الصناعية المخالفة لعدم وجود محطات معالجة لديها وهذه الصناعات والمنشآت تضم كل من (الدهانات ¬ معامل الأدوية ¬ المنظفات ¬ الخراطيم البلاستيكية ¬ معاصر الزيتون ¬ المطاحن ¬ محارق النفايات الطبية ¬ المشافي وغيرها الكثير...) ‏حتى المنشآت المرخصة والنظامية والتي من المفروض أنها تتوفر على محطات المعالجة والمصافي تتوفر لديها هذه الأمور على الورق وفي بيانات الترخيص فقط ، أما الحقيقة والواقع فيقولان غير ذلك تماماً ، ومع ذلك لاأحد يحرك ساكناً ، ولاأحد يستطيع اجبار هذه المنشآت على تطبيق القانون وحماية البيئة فإلى متى؟!! ‏

سؤال ، بل أسئلة طرحها غيرنا من قبل وها نحن نطرحها من جديد على من يعرفون هذه الحقائق التي لا تعدو ان تكون غيضاً من فيض وهؤلاء الذين نطرح عليهم هذه الاسئلة يعرفون من الحقائق في هذا الموضوع أكثر مما كتبنا بكثير فحلب تعيش ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي مأساة حقيقية على الصعيد البيئي وضعها في صدارة المدن الملوثة وفي مقدمة البلدان على صعيد تعرض أبنائها للأمراض المرطنة والكوارث الصحية الناتجة عن التردي البيئي ومع ذلك فلا زال هناك من أغمض عينيه وصم أذنيه واغلق فمه وجلس ينتظر ومعه ينتظر الجميع ...ولكن أي انتظار؟!!