تتميز محافظة "طرطوس" بكثرة قلاعها، التي تعود إلى فترات تاريخية متعددة، من أبرزها تلك التي تعود لفترة الحكم الإسلامي بما حملته من تفرد معماري، إضافة إلى أهميتها الاستراتيجية والعسكرية التي فرضها موقعها.

قلاع أربع ذات طابع إسلامي تحتضنها المحافظة، ووفقاً لما يذكر "بسام وطفة" معاون رئيس دائرة آثار "طرطوس" في حديثه لمدوّنة وطن فإن البداية هي من قلعة "الخوابي" التي تبعد عن المدينة شمالاً حوالي العشرين كيلومتراً وتتميز بموقعها الحربي، وتضم منشآت كثيرةً بعضها مهدّم والآخر ما يزال مستخدماً في السكن، الصعود إليها يتم عن طريق البوابة الوحيدة، وتتألف من حارتين، الأولى حارة "سنان راشد الدين" والثانية حارة "السقي" التي لم يبق منها شيء على الإطلاق.

بدأت هذه القلاع بالظهور على مسرح الأحداث التاريخية بشكل رئيسي في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، بعد انقسام السلجوقية التي حكمت بلاد الشام بالنيابة عن الخلافة العباسية إلى ممالك متنازعة، ومع غياب القوة الرئيسية الحاكمة ظهرت دويلات متصارعة فيما بينها، ناهيك عن قدوم الحملات الصليبية وسيطرتها على مدن "الرها" و"إنطاكية" "و"طرابلس" و"القدس" فيما بعد، أمام هذا الواقع تمكنت الحركة الفداوية من السيطرة على مجموعة من القلاع أغلبها يقع في محافظة "طرطوس" اليوم، وقد بذلت هذه الحركة جهوداً كبيرةً حتى تمكنت من تشكيل دويلة لها تشمل جبال اللاذقية اليوم، فعملت على ترميم قلاعها الرومانية على النمط الإسلامي الفريد المتأثر بالطابع الفارسي، مستفيدين من الطبيعة الجغرافية لتلك القلاع حيث قامت على جبال شاهقة الارتفاع، ولها قمم شديدة الانحدار، وأودية وعرة المسالك، ودروب متشعبة ضيقة، فبدأت بالسيطرة على قلعة "القدموس" عام 1141م، وفي السنة نفسها سيطرت على قلعة "الكهف" التي تبعد عن قلعة "القدموس" خمسة عشر كيلومتراً، ومن ثم قلعة "الخوابي" و"المنيقة" و"العُليقة" سنة 1163 م، وهم بمنزلة خطوط أمامية لحماية قلعة "الكهف" مركز القلاع الإسلامية في "طرطوس"

أما قلعة "الكهف" فحالياً هي مهدّمة، ونلاحظ من آثارها بقايا سور يحيط بها وثلاثة أبراج من جهات الشرق والغرب والجنوب، إلا أنّ القلعة الأساسية محفورة بالصخر، والحقيقة إنّ هذه القلعة بقيت بعيدةً عن أي اهتمام منذ هجرها حتى عام ألفين واثنين، حيث تم الكشف عن الحمّام العائد للفترة الإسلامية، والخزانات التي تزود الحمّام بالمياه، وهي محفورة في جزئها السفلي بالصخر، أيضاً الجامع وبعض اللقى الأثرية.

قلعة "العُليقة"

ومن القلاع "العُليقة التي تقوم على جرف صخري كلسي مرتفع، تحيط به سفوح شديدة الانحدار، ولم تنفذ بها أي أعمال تنقيب أو ترميم علماً أنها مسجلة كقلعة إسلامية على لائحة التراث الوطني، وأخيراً قلعة "القدموس" في المنطقة الوسطى من جبال الساحل السوري، وهي مشيدة على صخرة طبيعية تتربع على جبل، ذات موقع استراتيجي يتحكم في الطريق من حوض العاصي إلى جبال الساحل».

كثيرة هي المقالات والدراسات التي تناولت هذه القلاع ذات الطابع الإسلامي، منها ما اكتفى بتقديم معلومات عن الموقع والحكم فيها فقط، وقلة تطرقت إلى دورها الاستراتيجي كحد فاصل بين الصليبيين في قلعة "المَرقَب" شمالاً وصولاً إلى قلعة "يحمور" جنوب "طرطوس" وبين الزنكيين والأيوبيين في الداخل. الباحث أ. "محمد شاهين" الذي التقته مدوّنة وطن يرى أنه بدراسة معمقة للعصور الوسطى تجعلنا ندعوها عصر القلاع بامتياز، ويؤكد خلال حديثه ضرورةَ التركيز على ماهيّة القلاع من جميع جوانبها لكونها العنصر الأهم في صناعة تاريخ العصور الوسطى، فالقاعدة القديمة للقلاع تقوم على عرقلة وصول الإمدادات إلى الجيوش الغازية المتقدمة، وبالتالي القضاء عليها، لكن هذه القاعدة لا يمكن تطبيقها على جميع حقب التاريخ، فعلى سبيل المثال الحروب الصليبية في المشرق العربي اختلفت فيها القاعدة التي لم تثبت جدارتها إلا أيام السلم، وخلال التصدي للغارات المحدودة، ومهما بلغ عدد تلك القلاع فإنه لا يمكنها تشكيل سدّ يقف حائلاً في وجه قوة كبيرة، لذلك نجد أنها في بلاد الشام، خاصةً في محافظة "طرطوس"، كانت منظومةً دفاعيةً متكاملةً، عبارة عن حلقات متتالية من الأبراج ومن ثم قلاع صغيرة، لتنتهي بالحلقة الأقوى وهي بالقلاع الكبرى، وتلك المنظومة الدفاعية قامت بما يتناسب مع وضع الحدود، وهنا أصبحت أكثر من مجرّد قلعة بالمفهوم الحديث، فهي تمكّن ساكنيها من تلبية الحاجات العامة والخاصة، وتحتفظ بالقوة اللازمة للسيطرة على المقاطعات المجاورة وحمايتها، كما تستطيع من جهة أخرى إبراز أهمية الجانب الاقتصادي من حيث تشجيع الاستيطان في الأراضي الزراعية، فكانت عنصر إغراء لكونها حاميةً للأراضي المجاورة لها، وبالتالي منحت مالكيها سلطةً جديدةً تتمحور حول السيطرة على الأراضي المجاورة والعاملين فيها، وجني الأموال منها، ومن جهة أخرى وفرت حمايةً للسهول الساحلية السورية، فالسلاسل الجبلية والمرتفعات التي تفصل السهول الساحلية والوادي الانهدامي في الداخل غير كافية لصدّ الجيوش المهاجمة، وفي النهاية تكمن الأهمية الفعلية للقلاع من كونها متنوعة الوظائف من عسكرية إلى اقتصادية ودفاعية تحمل أشكالاً من العمارة الفريدة».

غرفة "سنان راشد الدين" في قلعة "القدموس"

وعن الظروف التي أسهمت في بناء القلاع في العصر الإسلامي يضيف: «بدأت هذه القلاع بالظهور على مسرح الأحداث التاريخية بشكل رئيسي في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، بعد انقسام السلجوقية التي حكمت بلاد الشام بالنيابة عن الخلافة العباسية إلى ممالك متنازعة، ومع غياب القوة الرئيسية الحاكمة ظهرت دويلات متصارعة فيما بينها، ناهيك عن قدوم الحملات الصليبية وسيطرتها على مدن "الرها" و"إنطاكية" "و"طرابلس" و"القدس" فيما بعد، أمام هذا الواقع تمكنت الحركة الفداوية من السيطرة على مجموعة من القلاع أغلبها يقع في محافظة "طرطوس" اليوم، وقد بذلت هذه الحركة جهوداً كبيرةً حتى تمكنت من تشكيل دويلة لها تشمل جبال اللاذقية اليوم، فعملت على ترميم قلاعها الرومانية على النمط الإسلامي الفريد المتأثر بالطابع الفارسي، مستفيدين من الطبيعة الجغرافية لتلك القلاع حيث قامت على جبال شاهقة الارتفاع، ولها قمم شديدة الانحدار، وأودية وعرة المسالك، ودروب متشعبة ضيقة، فبدأت بالسيطرة على قلعة "القدموس" عام 1141م، وفي السنة نفسها سيطرت على قلعة "الكهف" التي تبعد عن قلعة "القدموس" خمسة عشر كيلومتراً، ومن ثم قلعة "الخوابي" و"المنيقة" و"العُليقة" سنة 1163 م، وهم بمنزلة خطوط أمامية لحماية قلعة "الكهف" مركز القلاع الإسلامية في "طرطوس"».

في دراسة تحليلية أجراها. "مهند لوحو" الخبير في نظم المعلومات الجغرافية "GIS" لطبيعة المواقع التي شيدت عليها تلك القلاع ومعايير الاختيار بالنسبة لكل قلعة، وبحسب رأيه تعد مواقع القلاع الأربع استثماراً مثالياً للواقع الجغرافي في المنطقة، من حيث الموقع العام سواء لكل القلاع، أو لموقع كل قلعة على حدة، فبالنظر إلى الموقع العام مع إضافة قلعتي "المرقب" و"المينقة" نجد أن القلاع ترسم خطين متقاطعين في قلعة "القدموس" الأبعد عن البحر وتحميها من جهة "المرقب"، أما قلعتا "المينقة والخوابي فقد أمنتا جهتي الشمال والجنوب للمنطقة المركزية التي تمتد من قلعة "الكهف" حتى قلعة القدموس"، وقد استفادت هذه القلاع جميعها من الوعورة الشديدة للطريق نحو الشرق لأنّه سفحٌ انهداميٌ، أما على مستوى موقع كل قلعة، فقد أقيمت كل من قلعتي "القدموس" و"العليقة" على المرتفع الأعلى، مستفيدين من الحماية التي أمنها "وادي جهنم" بين القلعتين، وقد تميزت قلعة "العليقة" بوجود مدخل طبيعي ضيق من جهة واحدة وهي الشرق، وسفوح شديدة الانحدار من بقية الجهات، بينما يمكن الوصول بسهولة إلى قلعة "القدموس" من جهتي الشمال والجنوب الغربي، أما بقية جهاتها فلها انحدار كبير جداً، وتتشابه كل من قلعتي "الخوابي" و"الكهف" في صفات الموقع الجغرافي لهما، فرغم أن المرتفع الذي أقيمت عليه كل منهما ليس الأعلى إلا أنه الأكثر حمايةً والأصعب وصولاً، فهي مرتفعات متطاولة غير واسعة تنحدر سفوحها بشكل حادٍ في جميع الاتجاهات عدا مدخل من الجهة المعاكسة للطرق الواصلة للقلعة من جهة البحر، ويتميز الطريق الواصل إلى كل من القلعتين بالضيق خاصة قلعة "الكهف" ما يسهل الدفاع عنها، وهذه القلعة تحديداً هي الأكثر حماية من الناحية الطبيعية، لذلك كان من الطبيعي أن تتمتع بأهمية أكبر، وتصبح مركزاً رئيسياً مع قلعة "القدموس" التي تمثل الثقل السكاني».

صورة من غوغل تظهر مواقع القلاع

أما فيما يخص الجانب الحضاري والمعماري وبدراسة ميدانية للعناصر المعمارية في هذه القلاع فقد تم تسجيل بعض الجوانب المعمارية المهمة منها ما يسمى بالعمارة الوحشية، وهي عبارة عن غرف خالية من زخارف بنيت من حجارة ضخمة تشبه الكهوف وأرضها من تراب وحصى، أيضاً تم تسجيل انتشار للمساجد عديمة المآذن، كما تميزت الخطوط التي تزين قلاع "الكهف" و"القدموس" و"الخوابي" بمزيج من خطي الثلث والكوفي، حيث استفادوا من ميزات الكتابة للخطوط العربية بما يتماشى مع طبيعة عمارتهم الفريدة، كما نجد في تلك القلاع الرموز الدائرية بكثرة، وهي تدل على الاستمرارية والكونية والأبدية.

إذاً وبعد الاطلاع على الأهمية الجغرافية والتاريخية لكل من القلاع الأربع ذات الطابع الإسلامي وتفردها العمراني وتميز الموقع الطبيعي لا بدّ من التشديد على أهمية الترويج السياحي بشقيه الثقافي والبيئي لهذه المناطق كوسيلة لحمايتها من جهة وإنعاشها اقتصادياً من خلال توفير فرص العمل لسكانها المحليين.