"أحمد م. أحمد" قاصّ، وشاعر، ومُترجم، غادرَ القصّة باكراً، ليتفرّغ للشّعر والتّرجمة، حيثُ يجد فيهما ما يصبو إليه من هواجسَ ورغباتٍ، فكتب الشّعرَ المنثور، وترجم للكثيرين من شُعراء أميركا، فأغنى المشهدَ الثقافيّ العربيّ.

مدوّنة وطن "eSyria" التقت الشّاعر في منزله في "طرطوس" بتاريخ 24 أيّار 2014، وكان معه هذا الحوار:

يتخفّف "أحمد" من قيد البلاغة ومقتضياتها، ويفتح جملتَه الشّعريّة على علاقاتٍ لغويّةٍ بين مفرداتٍ ملموسةٍ لا توغل في دلالتها الميتافيزيقيّة، وكأنّه يُوطّد بذلك انتماءَ قصيدته النثريّة إلى قصيدة النّثر اليوميّ المهجوسِ بتفاصيل الحياة اليوميّة، وحتّى حين يُتاخم حدودَ البلاغة، سرعان ما يتعمّد تلطيخها بنثر الواقع، وكأنّ هناك علاقة صراعٍ بينه وبين جماليّات البلاغة؛ لذلك يستدعيها لا من أجل التّباهي بها، بل من أجل إرضاخها لبلاغة الواقع الفجّ

  • بداياتك الأدبيّة كيف كانت؟ وبمن تأثّرت؟
  • يقرأ في مكتبته

    ** وجدتُ نفسي باكراً في حضرة الأدب، ولكنّ الوضع المادّيّ لم يسمحْ لي بشراء كتابٍ أو مجلّة أدبيّة، حيث كنتُ أعتمد على استعارة الكتب من بعض الأصدقاء، وكانتِ البداية مع القصص البوليسيّة "أجاثا كريستي"، وبدءاً من الأوّل الابتدائيّ نمتْ عندي رغبةُ القراءة، حيثُ كان أبي مهتمّاً بتعليمي "القرآن"، وهذا ما جعلني أحبّ اللّغة العربيّة، وأشعرُ بعمقِها وتأثيرِها، وفي تلك المرحلة المُبكرة قرأتُ أيضاً بعضَ كلاسيكيّات الأدب العالميّ مثل: "رواية الأمّ، مكسيم غوركي"، و"البؤساء، فيكتور هوغو"، ولكنْ في المرحلة الإعداديّة والثّانويّة، بدأ بعضُ الشّعراء استمالتي مثل: "المُتنبّي، الأخطل، جرير"، وتأثّرتُ بقصائدهم الموجودة في الكتاب المدرسيّ، ولعبَ "بدويّ الجبل" دوراً مهمّاً في تكوين ذائقتي الشّعريّة، ولكنّني مع ذلك بقيتُ أميناً للقصّة، وكنتُ أتلقّى التّشجيع من مُدرّسة اللّغة العربيّة الّتي حوّلت مواضيعَ التّعبير الّتي أكتبها إلى موضعٍ اهتمامٍ ونقاشٍ كبيرين في المدرسة بأكملها.

  • تتوزع تجربتك بين القصّة والشّعر والتّرجمة. أين تجدُ نفسك؟ ألا تعتقد أنّ التّنوّع الكمّيّ قد يؤثّر فنّياً في النّوع؟
  • أغلفة بعض أعماله

    ** الآن أجد نفسي فيما أسمّيه "النّثر الشّعريّ"، وأشعر بأنّني غادرتُ منطقة القصّة منذ مجموعتي الأولى والوحيدة "جمجمة الوقت" الّتي استنفدتُ فيها كلّ إمكانيّاتي في القصّ، ووصلتُ كما أرى إلى ذروة حلمي في شكل الحداثة الّذي أشبع تمرّدي على القصّ السّائد، واكتفيتُ بهذا دون رغبةٍ في المزيد، ولهذا لم أشعرْ بالتّشتّت بين الأجناس الأدبيّة، فتفرّغتُ باكراً للشّعر الّذي أحبّ. وبخصوص التّرجمة كانتْ داعماً لي لكونها المصدر الثقافيّ الأكثر أهميّة، وهي إضافة إلى دورها المعرفيّ لاتزال وسيلةَ عيشٍ تدعمني اقتصاديّاً على صعيد الحياة الواقعيّة والحياة الأدبيّة.

  • المشروع الأكثر أهمّيّة عندك هو التّرجمة. أين وصلتَ في هذا المشروع؟ وهل تعتقد أنّ التّرجمة تُبقي على ما هو أدبيٌّ فنّيّ في النّصّ؟ وكيف تنظر إلى المسافة بين المُترجم الشّاعر، والمُترجم المهنيّ الأكاديميّ؟
  • ** ترجمتُ ثلاثين كتاباً من الشّعر الأميركيّ، اخترتها بعنايةٍ لشعراءَ يمثّلون من وجهة نظري أجواءَ الشّعر الأميركيّ المُعاصر بكلّ مدارسه، فترجمتُ "تشارلز سيميك"، و"بيلي كولينز"، و"روبرت بلاي"، و"بول أوستر"، وغيرهم. وحاليّاً أقوم بالمُراجعة الأخيرة لترجمتي لأصعب الشّعراء "جون أشبري"، وتأتي صعوبةُ ترجمتِه لكون نصوصه حافلةً بالمجاز والاستعارات والفلسفة وعلم النّفس والكثير من العمقِ والرّؤيا، وهذا ما تطلّب منّي جهداً مُضاعفاً، وأنا شخصيّاً أميلُ بقوّةٍ إلى فكرةِ الأديبِ المُترجم، حتّى إنّني لا أقرأ من النّصوص المُترجمة سوى التّرجمات الّتي قام بها أدباءٌ؛ لأن مُعظم النّصوص تفقدُ الكثيرَ من شعريّتها، وغالباً لا ينجح سوى الأدباء المُترجِمون في التقاط الومضات الشّعريّة وتحسّس طبقات النّصّ الدّلاليّة.

  • اغترابك في أميركا، ماذا أضافَ إليكَ فنّيّاً؟
  • ** لم أكنْ بعيداً في "سورية" عن الحداثة، ولم تحدثِ الصّدمة الثّقافيّة أثناء ذهابي إلى "أميركا"، ولم يكن هناك من دهشةٍ تفوقُ دهشتي بمراعي "كارولاينا الشماليّة" التي ملأتني حنيناً إلى رائحة العشبِ والتّرابِ في بلدي، وشحذتْ ذاكرتي للّغة العربيّة، حيث الامتداد الشّاسع والغابات والسّكون، وربّما تكون الفائدة الكبيرة التي قدّمتها لي الغربة، هي معرفتي ببعض المُفردات الجديدة الّتي ساهمت في تطوير التّرجمة وخصوصاً مفردات الحياة اليوميّة.

  • تجربتك في الترجمة لم تقتصر على الشعر، وإنما تجاوزتها إلى الرّواية. هل لنا أن نعرف بعض ترجماتك الروائيّة؟
  • ** بدأت مشروع الترجمة الرّوائيّة بترجمة رواية "بول أوستر"، "رجل في الظلام"، وألحقت بها رواية للكاتبة الأميركيّة "جويس كارول أوتس" المرشّحة لجائزة "نوبّل" منذ 27 عاماً، وأترجم حاليّاً لوزارة الثّقافة روايةً للرّوائيّ الأميركيّ المهمّ جدّاً "غور فيدال"، وأيضاً أقوم بترجمة رواية لـ"فيليب روث"، و"كورماك مكارثي"، وهذا العمل يتطلّب مني مدّة سنتين على الأقل، وأنا متفرّغ بشكلٍ كامل للتّرجمة الرّوائية.

  • وأخيراً، أين النّقد من ترجماتك؟
  • ** يوجد تقصيرٌ في تناول النّصوص المترجَمة، ولهذا نجد في السّوق الأدبيّ ترجماتٍ باهتةً، ما يضعف التذوّق الأدبيّ، وذلك لعدم وجود نقدٍ مختصّ يُراجع النّصّ بلغته الأمّ، مكتفياً ببعض القراءات الانطباعيّة. وعلى صعيد تجربتي فقد كُتبَ مثلاً عن رواية "رجل في الظلام" عشرات المقالات المطوّلة لكبار الصحفيّين والأدباء الذين يجيدون اللّغتين، ونشرتْ هذه المقالات في "القدس العربيّ، الأخبار، النّهار، والدّستور الأردنيّة"، وقد لاقت هذه الرّواية احتفاءً مهمّاً على صعيد النّقد والقراءة والتّداول.

    في هذه الأيّام التي تعزّ فيها التّرجمة الحسنة، تأتي ترجمة "أحمد م. أحمد" مثل مفاجأةٍ جميلةٍ صارخةٍ، كما يقول الدّكتور المترجم والناقد "ثائر ديب"، الذي يُضيف: «ينطبق هذا خصوصاً على ترجمة الشّعر التي أعتبرها أصعبَ أنواع التّرجمة على الإطلاق، إذ يصعب نقلَ ما في الشّعر من المجاز الكثيف، والإيقاع، والمعاني الحافّة، وكلّ ما تبقّى من زينةٍ ترنّ ترتديها اللّغة كي تخرجَ عن مألوفها، وتلفتَ الانتباهَ إلى زخرفها وصنعاتها، وتكون شعراً. لا أعلم ما الذي يفعله "أحمد" في ترجمة الشّعر، فيعيد إلباسَ هذا الأخير بالعربيةّ، كلّ ما كان قد خلعه عنه من زينةٍ إنجليزيّةٍ وهو يخطو في درب ترجمته وانتقاله إلى العربيّة؛ فالقليلون من المترجمين والكتّاب من لهم مثل قدرته على التركيب المُتقن، والتقاط الرّهافات، والأمانة الذّكيّة. ثمّة إعادةُ ألقٍ للّغة في امتحانها في تحدّيات فاخرة، وثمّة قائدٌ للمعركة، مغامرٌ إلى أبعد الحدود؛ إلى الحدود التي تأتي بالنّصر».

    الشّاعر والنّاقد "محمّد علاء الدّين عبد المولى" تحدّث عن تجربته الشّعريّة بالقول: «يتخفّف "أحمد" من قيد البلاغة ومقتضياتها، ويفتح جملتَه الشّعريّة على علاقاتٍ لغويّةٍ بين مفرداتٍ ملموسةٍ لا توغل في دلالتها الميتافيزيقيّة، وكأنّه يُوطّد بذلك انتماءَ قصيدته النثريّة إلى قصيدة النّثر اليوميّ المهجوسِ بتفاصيل الحياة اليوميّة، وحتّى حين يُتاخم حدودَ البلاغة، سرعان ما يتعمّد تلطيخها بنثر الواقع، وكأنّ هناك علاقة صراعٍ بينه وبين جماليّات البلاغة؛ لذلك يستدعيها لا من أجل التّباهي بها، بل من أجل إرضاخها لبلاغة الواقع الفجّ».

    ومضات من ديوانه "أحرق سفنه إلا نعشاً":

    (1)

    "الصّبيّ النّحاتُ

    غارقٌ في نحتِ شيخوخته".

    (2)

    "مع ذلك،

    أطيبُ السّاعات

    حين لا أكون معي".

    (3)

    "حين انطبقتْ ظلالُك

    على ظلّي،

    ارتعشَ القصب".

    (4)

    "وكلّما يأتي الدّبقون

    ألوذ باسمكِ

    يا قاطرة العذوبات".

    (5)

    "اسودّتِ الدّفاترُ ونحن نصِفُ بياضها.

    حرقنا الأرضَ

    ونحن ننشدُ أخضرَها".

    قصيدة "جنوب"، من ترجمته لديوان "حافة البياض" للشّاعر "بول أوستر":

    "مبتورٌ حتّى البياض:

    القلب البرونزيّ، وهيئة السّماء

    لشتائنا التدريجيّ.

    لا تنسَ

    يا خِلّيَ الذي بلا أحلامٍ، أنّني أيضاً

    جئتُ إلى هذا العالم قبل الثلج".

    بقي أن نذكر، أنّ الكاتب والمترجم "أحمد م. أحمد" من مواليد "طرطوس"، 1965.

    صدر له:

    "جمجمة الوقت"، 1993.

    "أحرق سفنه إلا نعشاً"، 2014.

    ومن ترجماته:

    رواية "رجل في الظلام"، "بول أوستر"، 2010.

    "العالم لا ينتهي"، "تشارلز سيميك"، 2010.

    "لعلّ الخريف هو اللّحد"، "روبرت بلاي"، 2011.

    وهو مقيم بين "سورية، والولايات المتحدة" منذ سنة 2000م.