لم تكن رحلةُ حياتِها سهلةً في بيئةٍ ريفيّةٍ قاسية، وكانت من أوائل الإناثِ الّلواتي تلقّين التعليمَ في قريتها، إلّا أنّ العادات وقفت عائقاً أمامَ تحقيقِ طموحها، فلم تستسلم لهذا الواقع وكانت صاحبةَ اليدِ البيضاء في أغلبية مناحي الحياة.

مدوّنةُ وطن "eSyria" التقت بتاريخ 1 أيلول 2019 مع "نجيحة علي" لتحدثنا عن رحلة حياتها حيث قالت: «نشأت لدى عائلةٍ مؤلّفة من أبٍ وأمٍّ وخمس أخوات وأخٍ وحيد، والدي كان يعملُ في الأرض والزّراعة، أمّا والدتي فقد كانت ربّة منزل امتهنت الخياطة وأتقنتها، وقد أصرّت على تنشئتنا على محبّة الأرض والوطن، وعلى الأُلفة فيما بيننا وبين النّاس، وأحيت فينا روح التّعاون والمبادرة والأعمال الإنسانيّة، وفي تلك الفترة بشكلٍ عامٍ كانت ظروف الحياة قاسيةً جدّاً، فلا ماء في العين، ولا كهرباء يستنارُ بها، بل كان الاعتمادُ في ذلك على الوسائل البسيطة، أمّا للتّدفئة فكنّا نعمل طيلة العام على جمع الحطب لمواجهة برد الشّتاء القارس، وتأمين البعض من مستلزمات المنزل من الغذاء، وكان اعتمادنا على تربية بعض أنواع الحيوانات وعلى الزّراعة أيضاً، لكن على الرّغم من هذا كلّه، كنّا جميعاً كأبناءِ قريةٍ واحدةٍ نجتمع للتّعاون والعمل بيدٍ واحدة، نتشاركُ في أفراحنا وأحزاننا ومختلف أعمالنا».

انتسبت إلى الاتّحاد النّسائي عام 1968 وهي مرحلة مهمّة في حياتي، خلالها كنّا نجتمع في ساحة القرية لتبادل الآراء، فقرّرنا من خلال اجتماعاتنا أن نقيم دورات لمحو الأميّة، وقد تمّ ذلك بالفعل، واهتممت بتشجيع النّساء على تعلّم بعض المهن كالخياطة مثلاً، واتباع دورات في التّمريض أيضاً

وتتابع: «في عشاء كلّ يوم كان يجتمع عند والدي الأصدقاء والأقارب، يتبادلون الأحاديث والقصص والأشعار، وكم تمنّيت لو أتعلّم القراءة والكتابة لأسجّل ما أسمعه من حكم، على الرّغم من صغر سنّي حينئذٍ، ومع تراكم العوائق التي حالت دون ذهابي إلى المدرسة، خاصّةً أنّ العادات والتّقاليد لدينا تعدُّ أنّ عمل أيّ فتاة يقتصر على مساعدة أمّها في البيت فقط، إلّا أنّ حلمي تحقّق حين رفض أخي الأصغر منّي سنّاً الذّهاب للمدرسة من دوني، الأمر الّذي اضطرّ والدي لتصغير سنّي، وبكلّ شغف ذهبت للتعلّم في المدرسة، وبكلّ جدارة حصلت على الشّهادة الابتدائيّة، لأعود وأصطدم من جديد بعوائق عدّة منعتني من المتابعة، كوني كنت الأنثى الوحيدة في القرية الّتي أرادت المتابعة في المدينة بسبب افتقار القرية لمدرسة إعداديّة، فرفض أهلي هذا الأمر بشكل قاطع، وهنا قرّرت التّوجه إلى منحى آخر في الحياة، وبدأت بتعلّم الخياطة من خلال تفصيل بعض الألبسة لألعابي، وبعد أن أصبحت شابّةً، ذهبت برفقة أختي الكبرى إلى مدينة "حماة"، وهنا أتقنت مهنة الخياطة بشكل رسمي، وبدأت العمل وبدأت شهرتي تتزايد في القرية وجوارها، والحقيقة أنّ مهنتي هذه مكّنتني من إعانة أهلي ماديّاً بشكل كبير، ومكّنتني أيضاً من مساعدة أخي لإكمال مراحل دراسته، خاصةً بعد حصوله على الشّهادة الثانويّة، وإكمال دراسته في "دمشق"».

مع آلة الخياطة

وتكمل حديثها بالقول: «انتسبت إلى الاتّحاد النّسائي عام 1968 وهي مرحلة مهمّة في حياتي، خلالها كنّا نجتمع في ساحة القرية لتبادل الآراء، فقرّرنا من خلال اجتماعاتنا أن نقيم دورات لمحو الأميّة، وقد تمّ ذلك بالفعل، واهتممت بتشجيع النّساء على تعلّم بعض المهن كالخياطة مثلاً، واتباع دورات في التّمريض أيضاً».

وتختم بالقول: «بعد زواجي من أحد شبان القرية وقد كان صديقاً لأخي طيلة سنوات دراسته، رزقنا بسبعة أبناء وست بنات، وإلى جانب تربيتهم وإدارة أعمال المنزل الشاقّةً في تلك المرحلة الزّمنية، تابعت عملي في الخياطة، وكثيراً ما كنت اضطرّ لمضاعفة جهودي، لكنّني كنت سعيدةً بما أقدّمه لأكون العون والسّند لزوجي والأم المثاليّة لأبنائي، ومعاً أنشأنا أولادنا على الصّدق والحبّ والتّعاون مع الآخرين، واحترام النّاس، والعطف على الكبير والصّغير، كما حرصت أيضاً على تعليمهم بعض الأعمال التّراثيّة، فهي هويّتنا التي نعتزّ بها، أيضاً أقدّم عملاً إنسانيّاً كنت قد تعلّمته من والدتي وهو خياطة الأكفان وغسل الموتى، وفي عملي هذا أيضاً تطهير للرّوح وللنّفس».

المدرّسة "فاتن علي" من أهالي قرية "الصّومعة" قالت عنها: «ربّت "نجيحة" 13 ابناً وابنة على الأدب والأخلاق والعمل المتقن، وقد لبّوا النّداء حين ناداهم الواجب والوطن، وأيضاً دفعتهم للمشاركة بأيّ مناسبة اجتماعيّة مع هديّة أنيقة يحملونها أينما ذهبوا، ولحضورها الدّائم في كلّ المعارض الّتي تقام في القرية بشكل سنوي، والحقيقة أنّ أعمالها المتقنة هي الّتي تعرّف عنها، وهي أيضاً الجارة الودودة المحبّة لأسرتها وأهلها وجيرانها، والأم لكلّ من عرفها، والمعلّمة التي نهلنا منها المعرفة بشتّى أمور الحياة».

أمّا زوجها "أحمد مرهج مرهج" فقد قال: «هي شريكة العمر، ورحلة الأيّام الطّويلة بحلّوها ومرّها، الأمّ المثاليّة التي تميّزت لدى كلّ من عرفها برضاها ودماثة خلقها ومحبّتها وحسن تدبيرها، وهي اليوم مقصد النساء والشّابات لأخذ الرأي بمختلف الأمور الحياتيّة، وهي مقصد الكثيرين في حالات الوفاة لخياطة الأكفان وغسل الموتى، هذا العمل الإنساني الذي وهبت نفسها من أجله».

يذكر أنّ ربّة المنزل "نجيحة علي" من مواليد قرية "الصّومعة" في ريف "صافيتا" عام 1947.