بين الفروقات اللحظية لدرجات الحرارة ودفء أشعة الشمس بين الحين والآخر، علاقة فصلية مناخية وثيقة، أدركها أبناء الريف الساحلي القدامى، ونظموا طقوس حياتهم وفقها؛ وأبرزها المتعلق بالزراعة، ونسجوا الأمثال الموثقة للحالة.

فالمثل الشعبي: "بين تشرين الأول وتشرين الثاني صيف ثانٍ"؛ هو توصيف للحالة العامة الاجتماعية منها والعملية السائدة بين الناس، حتى إن منهم من نظم أعماله وفق ذلك معتمداً على المتناقل من الأجداد والواقع المتغير، حيث أوضح رب الأسرة المزارع "عزيز محمد" من ريف مدينة "بانياس" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 18 تشرين الثاني 2015: «في هذين الفصلين من فصول السنة أعتمد على الطبيعة كثيراً في حياتي اليومية، فخيراتها تظهر وفوائدها تشمل مختلف التطلعات والاحتياجات، ففي البداية وبعد أول رية أمطار أنتظر حوالي عشرة أيام حيث تسطع أشعة الشمس بشكل جميل ولافت للنظر ومريح للجسد، وأبدأ التجوال في البرية لجمع ما لذ وطاب من النباتات البرية بمختلف أصنافها وفوائدها الطبية والغذائية، وتكون الرحلة برفقة الأحبة ممتعة نتيجة المناخ الدافئ الذي يمنحنا شعوراً خاصاً قوامه الراحة والمتعة الجسدية، وهذا الشعور لا يمكن أن ندركه في بقية فصول السنة لأنها إما ذات حرارة عالية أو برودة غير محتملة، وأعتقد أن هذه الحالة كانت وراء إطلاق المثل القائل: "بين تشرين الأول وتشرين الثاني صيف ثانٍ"، لأنها ارتبطت بحالة اجتماعية عامة.

عملي بصيد الصنارة قديم جداً ويعود إلى خمسة وثلاثين عاماً، وخاصة منه الصيد التشريني الممتد ما بين شهر تشرين الأول وحتى نهاية كانون الأول، حيث يتميز البحر بهدوء أمواجه وصفاء مياهه ودفئها؛ وهو ما يعني أن الأسماك نشطة وبكثافة بعد مرحلة التزاوج والتفقيس والنمو، وهنا يمكن أن أقضي ساعات طويلة مترقباً رزقي من دون عناء أو تعب لأن المناخ معتدل ومريح

إضافة إلى أنني أعمد إلى صيانة ما تهدم من الجدران الاستنادية للحقول الزراعية أو ما يعرف (بهدة الرمي) بالعامية، حيث إن معظم الزواحف ومنها الأفاعي لا تتحرك من جحورها وثباتها الفصلي؛ وهو ما يسهل عملية البناء وتحريك ونقل الحجارة من دون مخاطر، ناهيك عن الراحة الجسدية، فلا درجات حرارة مرهقة ولا برودة مجمدة، وهنا يمكن دعوة أي صديق للمساعدة فيقبل برحابة صدر لأن العملية أشبه بنزهة ضمن أحضان الطبيعة؛ وهو ما يساهم في تقوية العلاقات الاجتماعية وفق مبدأ المعاونة أو المجابرة».

عزيز محمد

كما أن أغلب المزارعين المدركين لهذا المثل الشعبي، ينتظرون هذه الحالة الطقسية للقيام بعملية قطاف الزيتون، مدركين المعنى الحقيقي لكلمة الصيف الثاني في المثل الشعبي، وهنا قالت "حسيبة عبد الله" من ريف مدينة "بانياس" أيضاً: «في فترة من الفترات السابقة كنا نقوم بقطاف الزيتون في منتصف شهر أيلول، وكان للقطاف معاناته الحقيقية المتمثلة بالتعب والإرهاق والعطش والغبار، وهذا لأننا لم نكن ندرك أن أجدادنا كانوا ينتظرون دخول الحالة الطقسية المناسبة بين هذين الشهرين للعمل، لكن منذ عدة سنوات عملنا وفق قاعدة المثل الشعبي، وانتظرنا تعدل المناخ في هذين الفصلين؛ وهو ما انعكس علينا جميعاً وأصبح العمل تسلية ومتعة فالأجواء معتدلة ودافئة والرطوبة منخفضة، إضافة إلى أهم نقطة تم اكتشافها من خلال ذلك؛ وهي أن ثمار الزيتون أصبحت أكثر نضجاً ولا تحتاج إلى الكثير من الجهد خلال قطافها، حيث يمكن أن تتساقط على المفارش بمجرد تحريك الأغصان والفروع».

أما الصياد "حيدر حيدر" وهو من أقدم الصيادين الممتهنين لصيد الصنارة في مختلف الفصول؛ وأهمها بين التشرينين أو ما يعرف بالصيد التشريني، فقال عن عملية الصيد في هذه الفترة الفصلية: «عملي بصيد الصنارة قديم جداً ويعود إلى خمسة وثلاثين عاماً، وخاصة منه الصيد التشريني الممتد ما بين شهر تشرين الأول وحتى نهاية كانون الأول، حيث يتميز البحر بهدوء أمواجه وصفاء مياهه ودفئها؛ وهو ما يعني أن الأسماك نشطة وبكثافة بعد مرحلة التزاوج والتفقيس والنمو، وهنا يمكن أن أقضي ساعات طويلة مترقباً رزقي من دون عناء أو تعب لأن المناخ معتدل ومريح».

حسيبة عبد الله

ويتابع الصياد "حيدر": «بالنسبة لي تجلى المثل القائل: "بين تشرين الأول وتشرين الثاني صيف ثانٍ" بطبيعة العلاقات التي فرضتها الحالة الطقسية الدافئة، فالنفوس هادئة والأفكار والثقافات بين الصيادين متنوعة؛ وهو ما يعني الغنى الفكري للجميع. ومن ميزات هذا النوع من الصيد أو ما يعرف كما قلت بالصيد التشريني، الأحجام الجيدة للأسماك، فهي تعتني بنفسها وبغذائها في هذه الفترة من السنة جيداً، فنرغب بصيدها لدسمها ونكهتها اللذيذة».

الصياد حيدر حيدر