بحرفة صناعة الورود تجاوزت الطفلة "روعة بري" معاناة الأيام التي عاشتها بعيداً عن منزلها، حيث كانت تلك الحرفة إحدى المحاولات لإعادة رسم البسمة على وجوه أطفال مراكز الإيواء، بعد أن ذاقوا بتشردهم أقسى أنواع المعاناة بحق الطفولة البريئة.

ألعاب ترفيهية وتعلم حرف يدوية ورسم وفنون؛ جل ما يمكن أن يعيد إلى طفولتهم البراءة والشغف، ويبعد عنهم ظل الخوف والتشرد، فهي بالنسبة لهم عالم آخر يعزز الثقة بالنفس، ويشعرهم بأن هناك من يراهم بالعين المجردة ويشعر بهم، والطفلة "روعة بري" ذات الأربعة عشر عاماً المهجرة من "حلب" إلى "معسكر الطلائع" أحد مراكز الإيواء في محافظة "طرطوس"؛ تؤكد أنه لولا الترفيه لشعرت بتقدم سنوات عمرها رغم صغرها، وهنا قالت لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 6 آذار 2015: «أيام لا أتمنى ذكرها على الإطلاق ضاعفت من سنوات عمري، عانيت فيها من الظلم والقهر وتحملت الكثير، وكانت بالنسبة لي هاجس الحياة والطفولة الضائعة، لذلك أحاول نسيانها، وما ساعدني في تخطي هذه الذكريات، ما يقوم به الحرفيون والمدرسون هنا في مركز الإيواء، من ترفيه وتعليم لإعادة البسمة إلى وجوهنا.

الجمعيات الخيرية التي تعنى نوعاً ما بالطفولة تأخذ حصة من وقتنا الضائع فتملؤه بالمرح والمتعة والترفيه، عبر الأغاني واللعب وتعلم الرقص والدبكة الشعبية والعزف على بعض الآلات الموسيقية، وهي حالة اجتماعية جديدة عليّ، أراها أجمل مما كنت فيه قبل قدومي إلى مركز الإيواء في "معسكر الطلائع"

لقد تعلمت حرفة صناعة الورود والأشكال التزيينية من توالف البيئة، التي باتت تأخذ كل وقتي الضائع بالأساس؛ وهذا أشعرني بالسعادة، حيث وظفت هذه الحرفة كلعبة وتسلية لي، أمارسها بعد الانتهاء من الدراسة اليومية التي انقطعت عنها مدة طويلة».

الطفلة مرام وصديقتها

أما الطفلة "رماز وزان" التي بالمشاهدة البصرية ترى الحرفية "نظمية اسماعيل" المشرفة على تعليمها حرفة الاستفادة من توالف البيئة، أنها تبدع فيما تقدم، نتيجة الشغف لما أعاد إليها أحلام الطفولة، فتقول: «ما نصنعه بهذه الحرفة اليدوية شغل جل وقتي الضائع وخلق حالة من التسلية المفيدة بعيداً عن الشارع الذي كنا نملؤه ورفاقي بعد الانتهاء من المدرسة قبل تهجيرنا إلى مركز الإيواء، حيث كنا نلعب تحت أشعة الشمس وفي الهواء الطلق وتحت الأمطار الخفيفة بحجة إضاعة الوقت.

فهنا أعيش بعد أن تأقلمت مع الواقع الذي دخل إلى حياتنا فجأة، وهي نعمة لأن بعضهم يشكون من حالة نفسية سيئة بسبب عدم التأقلم، وبرأيي التنظيم اليومي هو السبب، حيث أبدأ يومي من السادسة صباحاً بالإفطار وترتيب أغراض المدرسة، ثم أقصد الشعبة الصفية خاصتي لأتلقى العلوم المدرسية بعد أن ابتعدت عنها حوالي العام نتيجة الأوضاع العامة والأزمة الدخيلة في حياتنا والتهجير إلى هنا، وبعد الانتهاء من المدرسة نقف أنا وأصدقائي أمام المدرسة لحوالي نصف ساعة قبل العودة إلى الغرف المعيشية، لنرتب ما سنفعله بعد الانتهاء من فروضنا المدرسية، فنرسم خارطة لعبنا ومتعتنا، وكيف سنجمع من الطبيعة ما يفيدنا في صناعة اللوحات الحرفية، وهي في النهاية حالة تأقلم ليس إلا».

خلال لعب الأطفال في مركز إيواء معسكر الطلائع

وتضيف "رماز": «الجمعيات الخيرية التي تعنى نوعاً ما بالطفولة تأخذ حصة من وقتنا الضائع فتملؤه بالمرح والمتعة والترفيه، عبر الأغاني واللعب وتعلم الرقص والدبكة الشعبية والعزف على بعض الآلات الموسيقية، وهي حالة اجتماعية جديدة عليّ، أراها أجمل مما كنت فيه قبل قدومي إلى مركز الإيواء في "معسكر الطلائع"».

"ازدهار محمد الخطيب" ما تزال تعاني عدم التأقلم مع واقعها العام، لأنها ترى طفولتها مسروقة وأحلامها البريئة محطمة: «قدمت إلى مركز الإيواء من "دمشق" وبالتحديد من منطقة "الحجر الأسود"، منذ مدة طويلة وحتى اللحظة لم أتأقلم مع وضعي الجديد هنا، وهو ما أدى إلى حالة نفسية ومزاج شخصي صعب، فليس هناك أجمل من بيتي بحضور أسرتي كاملة ورفاقي الذين عشت معهم سنوات طويلة، وهذا رغم الأجواء الجيدة والمريحة هنا.

الكابتن محمد مع أطفال المركز

فالأصدقاء جدد والسكن صعب بغرفة صغيرة لا يوجد فيها حمام، فكيف لي أن أحيا هنا بعدما كانت لي وسادتي الشخصية وسريري الصغير وغرفتي الخاصة وأغراضي الشخصية، حتى ألعابي بات يشاركني بها من حالتهم تشبه حالتي.

وبغصة أكبر هي طفولة مسروقة لن تعود، وأحلام كبار هاجسها العيش بكرامة في واقع لا يهاب الطفولة أو يحترمها».

اللعب خير ونيس لطفولة مسروقة والطفلة "مرام عبد القادر معاذ" خلقت أجواء لعبها الخاصة ولم تخجل منها، وهنا قالت: «ألعب "الكلال" أي "الدحاحل" مع رفاقي الفتية ولا أجد في هذا عيباً، لأنها لعبة أحبها كثيراً، وتشعرني بالسعادة الكبيرة، وتحقق لي طفولة أستمتع بها، ولكن ما يزعجني كطفلة الحمامات المشتركة البعيدة عن مكان إقامتي، التي دفعتني إلى النوم دون شرب الماء أو تناول الطعام يومياً كي لا أضطر للذهاب إليها وحيدة في منتصف الليل الذي أكره عتمته، فهي تذكرني بأحداث مريرة عشتها قبل التهجير من "حلب"».

وفي لقاء مع الكابتن الرياضي "محمد عزيز مصطفى" أحد أعضاء فريق تطوعي مؤلف من: الحرفية "نظمية اسماعيل"، والحرفية "روجيه إبراهيم"، والمدرسة "منال"، والمدرسة "ملك صقور"، والموسيقي "غياث كابر"، والمسرحي "طلال الحلبي"، تحدث عن عمله في المركز فقال: «الفكرة السائدة سابقاً أن الرياضة عبارة عن شيء يقضي على الملل ويملأ وقت الفراغ، ولكن رويداً رويداً أدرك الجميع أن الرياضة شيء مهم لبناء الإنسان وثقافته من ناحية التهذيب الأخلاقي، واليوم في المركز أحببت تكوين علاقة جيدة مع الأطفال وثقة متبادلة، أي خلق علاقة اجتماعية معهم، وأتحدث معهم وكأنهم أشخاص واعون ناضجون مسؤولون بشخصيات مستقلة، وهذا منحهم ثقة بالنفس وأشعرهم بقيمة طفولتهم، فانفتحت أمامهم مساحات من الفراغ الرحب القابل للاستثمار، وهنا جاء دوري لملء هذه المساحات بالأفكار الخلاقة الإيجابية المنتجة المبدعة، بطريقة سهلة وبسيطة تتناسب وعمرهم الصغير.

وكقصة طريفة حدثت معي، في إحدى المرات وخلال زيارتي إلى المركز طلب أحدهم أن تبقى كرة القدم معه ليلعب مع رفاقه بها متى يحلو لهم، فتركتها معه، وفي زيارة لاحقة أخبروني أن شاباً عطب الكرة ولم تعد تنفع للعب، فقلت له لا توجد مشكلة، ولكن أتمنى أن يكون حقق فائدة أرضته، وسمعت فيما بعد عن أسف الشاب وانزعاجه لما أقدم عليه».

ويتابع الكابتن "محمد": «منهم من يعيش بعيداً عن الأجواء الأسرية الاجتماعية والحميمية، وهذا خلق لديهم ثغرات اجتماعية كثيرة لها عواقب كبيرة في المستقبل، من ناحية بناء الشخصية الإنسانية السليمة والقويمة لديهم، وإن لم نتساعد بما يمليه علينا ضميرنا في المرحلة الحاسمة والحساسة، فهذا سينعكس علينا وعلى أبنائنا جميعاً في المستقبل، من ناحية الصورة العامة لمجتمعنا السوري.

وهذا لا يعني أن تحقيق هذه الرؤية والنتائج سهل، أو أن هذه الرؤية والنتائج ليست واقعية ولن تكون واقعية مستقبلاً، بل على العكس ستوظف انعكاساتها على أرض الواقع عندما تتبلور وتتقولب بالشكل المناسب الجاهز للاستثمار المضاد».