تعود الآنية الفخارية المكتشفة في "السويداء" إلى الحضارة "النبطية" بما تتميز به من دقة في الصناعة وتعدد الاستعمالات، التي بقيت حتى وقت طويل من أهم المنتجات التي كان الأنباط في "الأردن وفلسطين" يصدرونها عبر البحار، فتلقفها المحليون في "السويداء"، واعتنوا وأتقنوا صناعتها...

مدونة وطن "eSyria" التقت الباحث في الآثار "وليد أبو رايد" بتاريخ 14 آذار 2014؛ الذي تحدث عن حضارة "الأنباط" وتأثير الصناعة الفخارية على تجارتهم ويقول: «تأثرت الحضارة "النبطية" بالمؤثرات الحضارية التي كانت تسلك الطرق التجارية التي تمر عبر مناطق نفوذهم وسيطرتهم وأثرت فيها بنفس الوقت، وينعكس ذلك من خلال الآنية الفخارية المكتشفة في المواقع الأثرية التي كانت تشكل مدناً أو مراكز حضارية نبطية اقتصادية أو إدارية أو عسكرية على السواء، حيث تم العثور على أشكال وأنواع مختلفة من كسر الفخار التي تعود إلى آنية مختلفة الاستعمالات، كالجنائزية والمطبخية والتخزينية، أو المخصصة لنقل المواد، إلى جانب اللقى الفخارية (أي الأواني الكاملة) كالجرار الصغيرة المخصصة لخزن ونقل العطور والمواد الزيتية الثمينة (علاجية، غذائية، تزيينية، جنائزية) والجرار المتوسطة أو الكبيرة المخصصة للتخزين والنقل كـ"البياطس" وهي جرة سميكة الجدران واسعة الفوهة تستخدم لتخزين الحبوب والزيت والنبيذ وغيرها، وتشكل الجرار المتوسطة ذات العنق الطويل (مثل جرار الماء) أجمل اللقى الفخارية التي تم اكتشافها في تل "دبة بريكة" وفي مدينة "السويداء" خلال مواسم التنقيب الماضية».

تأثر الغزاة "الرومان" في بداية عهدهم بالصناعة المحلية، وحملوا معهم أساليب جديدة، لكن الفخار "النبطي" يتميز بأنه غامق ذو جدران رقيقة مصنّع محلياً من غضار ناعم سطوحه ممشطة وله رنين مميز، وقد صنعت منه الجرار المتوسطة والصغيرة المخصصة للمطبخ، إلى جانب السرج الفخارية المخصصة للإنارة التي حملت زخارف نباتية محلية توحي بالتميّز "النبطي" المحلي الجميل، وقد تم اكتشاف الكثير من السرج في الطبقات السطحية في "الدبة"، و"سيع"، ومدينة "السويداء"، والتي تعود إلى العصور البرونزية المتوسطة والحديثة، منها ما هو مستخدم للإنارة وتبدو عليه آثار احتراق، ومنها ما هو مخصص للهدايا وتقدمات في المدافن الأسرية

وعن المواد التي تدخل في صناعة الفخار وأشكالها ومقارنتها مع غيرها من الدول، يتابع: «استخدم "الأنباط" الآنية الفخارية التي تم تصنيعها محلياً من تربة طينية خشنة سوداء مستخرجة من ضفاف الوديان، ومخلوطة بالحصى البركاني الناعم، والقش والتبن، حيث تم تصنيعها وشيّها بسماكات مختلفة حسب غاية الاستخدام، وأشهرها "البياطس" والجرار الكبيرة والقصعات والصحون، إلى جانب استيرادهم الكثير من الآنية الفخارية التي كانت تصلهم عبر التجارة من شمال "فلسطين"، وهي بجودة أكثر من الآنية المحلية كأباريق الماء والزيت التي تميزت برقة جدرانها ونعومة الطينة التي صنعت منها، كما استورد "الأنباط" الآنية الراقية التي اشتهرت بها الحضارة "اليونانية"، وهي جميلة ذات جدران رقيقة مصنوعة من طينة بنية فاتحة وناعمة جداً تخلو من الحصى والقش ومشوية بأسلوب فني يجعلها تشبه (البسكويت)، وقد تم الكشف في "دبة بريكة" عن عدة كسر تعود إلى صحون وقصعات من هذا النوع، وقد تميزت الآنية الفخارية المكتشفة وخاصة الكبيرة منها بختم الصانع أو المصنع على قبضة الإناء من الأعلى، وتتواجد نماذج جميلة منها في مدينة "السويداء" و"الدبة"».

وعن تأريخ صناعة الفخار "النبطي" بالتحديد، يؤكد "أبو رايد" أنه يصعب في كثير من الأحيان تأريخ الفخار "النبطي" في جنوب "سورية" نتيجة التداخلات الحضارية "الهلنستية" و"الرومانية"، ويقول: «تأثر الغزاة "الرومان" في بداية عهدهم بالصناعة المحلية، وحملوا معهم أساليب جديدة، لكن الفخار "النبطي" يتميز بأنه غامق ذو جدران رقيقة مصنّع محلياً من غضار ناعم سطوحه ممشطة وله رنين مميز، وقد صنعت منه الجرار المتوسطة والصغيرة المخصصة للمطبخ، إلى جانب السرج الفخارية المخصصة للإنارة التي حملت زخارف نباتية محلية توحي بالتميّز "النبطي" المحلي الجميل، وقد تم اكتشاف الكثير من السرج في الطبقات السطحية في "الدبة"، و"سيع"، ومدينة "السويداء"، والتي تعود إلى العصور البرونزية المتوسطة والحديثة، منها ما هو مستخدم للإنارة وتبدو عليه آثار احتراق، ومنها ما هو مخصص للهدايا وتقدمات في المدافن الأسرية».

أما الدكتور "علي أبو عساف" المدير العام السابق لمديرية الآثار والمتاحف في "السويداء" والباحث الآثاري المعروف، فتحدث عن أهم المكتشفات الفخارية "النبطية" في المنطقة وتاريخها، ويقول: «من أهم اللقى الأثرية التي تساعدنا في تأريخ الوحدات المعمارية هي الآنية الفخارية التي يمكن مقارنتها مع ما اكتشف في "سيع"، و"البتراء"، و"ممفيس" في "فلسطين" ضمن صحراء "النقب"، ويمكن الإشارة إلى أن القطع الفخارية المكتشفة في "تل الدبة" تتميز بزخارفها الشبكية البنية الغامقة فوق طلاء خارجي بني محروق أيضاً والطين الرمادي الناعم المصفر، وكذلك هناك فخار ذو خطوط متعرجة أو نقاط ضمن إطار مستقيم وشاقولية ومائلة، وفق الأسلوب "النبطي" الذي يعتمد زخرفة سطح الإناء بأكمله، وهذا يعني الملاءمة بين شكل السطح ونوع الزخارف (هندسية – نباتية)، والتوزع على السطح دون النظر إلى ظهور الشكل التام على بقعة واحدة من السطح، ويؤرخ عادة هذا النوع من الفخار في القرن الأول قبل الميلاد، وقد عثرنا على مجموعة جيدة من الآنية المنزلية (قدور – صحون – قصعات – أباريق – كؤوس)، وكلها مصنوعة نسبياً من الطين الأحمر الوردي أو الأحمر الفاتح الناعم، وتشبه الفخار "النبطي" المكتشف في "البتراء" و"مأدبة"، وتؤرخ عادة كسابقتها في القرن الأول قبل الميلاد، وربما أيضاً في مطلع القرن الأول الميلادي، وبما أننا عثرنا مع هذه القطع على النقد الفضي الذي يحمل على وجهيه رأس الحاكم وعلى الوجه الآخر النسر، فربما تعود إلى عهد "عبادة الثاني" (62-60 ق.م)، أو إلى "مالك الأول" (60-30 ق.م)».