جلبها الإنكليز بهدف إمداد "قوات الحلفاء" بالطحين، فتم وضعها بالقرب من قرية "عرمان"، لم يتوقف حجرها طوال عقود مضت، لتبقى هذه المطحنة مكاناً للخير تفيض بالمؤونة والبركة، وعلى ضجيج محركها يتلاقى أهالي القرية.

إنها مطحنة "عرمان" القديمة التي تعد رمزاً للحياة، تتحدث عنها جدران حجرية ومعدات حديدية نحت عليها الزمن ملامحه، مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 31/10/2013 زارت المكان للتعريف بهذه المطحنة التي خدمت المنطقة دون توقف، واستمعت إلى حديث أهالي القرية وذكرياتهم القديمة في هذا المكان الذي احتضن أهالي القرية وحقق غايتهم في طحن الحبوب على اختلاف أنواعها، منهم السيد "أجود الزغير" الذي وصف موقع المطحنة وتحدث عن ذكريات الطفولة في هذا المكان وقال:

المطحنة كانت إضافة مفيدة إلى القرية وما يحيط بها فعندما تتوقف مطحنة "ملح" أقرب القرى إلى قريتنا تقوم مطحنتنا بالمطلوب، بالتالي بقيت مقصودة من قبل الأهالي وقد ألفت هذا المكان بكل ما فيه من ذكريات لا تقدر بثمن ومن خلال هذا المكان تواصلت مع أهل قريتي، وفي هذا المكان كانت تدور أحاديث المواسم والحياة الاجتماعية وكل ما قد يخطر في البال من أحاديث، وإلى جانب غاية الطحن يزور المطحنة الرجال من كبار السن والشباب. وكانت الجلسات فيها الكثير من المتعة تذيب حالة التعب والجهد الذي تتطلبه هذه المطحنة، ولغاية هذا التاريخ حرصت على أن تستمر المطحنة في العمل وأكثر الفترات اكتظاظاً بين شهر أيلول وتشرين الثاني من كل عام حيث يستعد الأهالي لموسم الشتاء، وأتذكر في ذلك الزمن الأجور التي تستحقها المطحنة مقابل كيلو الطحين و"الكشك" وكانت تعد بالقروش، وعلى الرغم من قلة العمل في بعض الفترات كانت المطحنة تدار كل يوم، وكنت في أوقات التدريس أديرها في الفترة المسائية لتكون في البداية خدمة لأبناء قريتي وصورة تراثية قديمة يصعب إحالتها إلى التقاعد لأنها من وجهة نظري قوية لم يفتر فيها نبض الحياة

«لاينسى أهالي "عرمان" صوت هذه المطحنة الذي كان يسمع في أرجاء القرية هذا الصوت كفيل بالإخبار عنها، إنها قيد العمل يأتي إليها الأهالي من نساء ورجال حاملين مؤونة المنزل من حبوب للطحن أو الجرش أو غيرها من الاحتياجات، هذا الصوت تكفل بخلق نوع من الألفة فعمل هذه المطحنة دليل على الحياة التي لم تغادر هذا المكان، الذي انطبع في ذاكرتنا لنحمل في المخيلة صوراً لمحرك قديم وجلسات الأهالي التي قد تطول لساعات تتجاوز غاية الحصول على الطحين.

الأستاذ "يوسف المتني" يشغل المطحنة خدمة لأبناء قريته

ففي جوار هذا المحرك كانت الحكايا والسير الشعبية وقصص منها العام والخاص الذي كان يتكفل صوت المحرك بإشهاره لأن من في الداخل لا يمكنه سماع الأحاديث التي يسمعها "البراك" وزوار المطحنة، ففي المطحنة بما تحمل من عبق الذكريات صور لحالة اجتماعية كانت تفرضها قوة المحرك في ذاك الزمن وما يتمكن من إنجازه لتجد بين النساء حالة من التعاون خاصة أن التقنية التي توافرت في ذلك العصر كانت محدودة لتقوم النساء ببعض الأعمال مثل "التنميش" أي تحريك البرغل مع كمية من الماء ليكون جاهزاً للطحن، وتظهر صور أخرى حيث تجد الأهالي يؤثرون من لديه التزام أو مرض أو ضرورة معينة ولا يتقيدون بالدور في هذه الحالات بروح من المحبة لبعضهم بعضاً وبدافع المساعدة».

للمحرك القديم الذي احتضنته حجارة سوداء ميزت البناء قيمة نافست السنوات لتستمد الحياة من أيدي من شغلها واعتنى بها لتقدم خدماتها لأهالي قرية "عرمان" الجنوبية وجزء كبير من القرى الجنوبية كما حدثنا الأستاذ "يوسف المتني" مالك المطحنة الذي عمل فيها لسنوات طويلة إلى جانب عمله التربوي كمدرس للغة العربية وقال:

محرك المطحنة الذي استقدمه الإنكليز وهو قيد الخدمة

«بعد مشقة العمل في "لبنان" والتنقل لسنوات طويلة عاد والدي إلى القرية وباع الأرض عازماً العمل في هذه المطحنة ليشتريها في عام /1958/، ودخل كشريك وكانت لديه خبرة سابقة في العمل، فقد استقدم الإنكليز هذه المطحنة إلى منطقة "عرمان" عام /1938/ أثناء الاستعداد إلى الحرب العالمية الثانية عندما سمحت "فرنسا" للإنكليز بالعبور من الأراضي السورية شرط أن تقوم بمد جنودها بالمؤونة، وكان القرار إنشاء ثلاث مطاحن: الأولى في "النبك"، والثانية في "سراقب"، والثالثة في قرية "عرمان" وقد يلاحظ الزائر ما حفر على المحرك من كتابات وأحرف تظهر مكان الصنع ومصدره.

وبالنسبة إلى والدي فقد امتلك المطحنة بعد سنوات بشكل كامل وهو على ثقة بأن عمل "البراك" وهي تسمية للمشرف على عمل المطحنة من الأعمال المميزة في المجتمع في ذلك الزمن، وبما أن المطحنة كانت إنكليزية الأصل وقادرة على كفاية المنطقة فقد كانت من وجهة نظره فكرة مربحة، وحاول تطويرها قدر الإمكان والمتوافر في ذلك العصر، فقد كانت في البداية تدار بقوة المياه ومن بعدها تم تحويلها إلى محرك المازوت الذي ترافق مع الصوت القوي الذي ينتقل عبر أحياء القرية وما يجاورها.

وقضى والدي سنوات يديرها وكنت مساعداً له من عمر أحد عشر عاماً بقيت هذه المطحنة تعمل إلى غاية هذا التاريخ مع فارق بسيط أنني وفي عام /1989/ طورتها بالاعتماد على الانتقال إلى محرك كهربائي وهذا ما جعل المطحنة ترافق التطور الذي طال المطاحن بفعل التطور التقني».

عن خدمات المطحنة للمنطقة والأجواء الاجتماعية التي تسود المكان أضاف الأستاذ "يوسف المتني" بالقول: «المطحنة كانت إضافة مفيدة إلى القرية وما يحيط بها فعندما تتوقف مطحنة "ملح" أقرب القرى إلى قريتنا تقوم مطحنتنا بالمطلوب، بالتالي بقيت مقصودة من قبل الأهالي وقد ألفت هذا المكان بكل ما فيه من ذكريات لا تقدر بثمن ومن خلال هذا المكان تواصلت مع أهل قريتي، وفي هذا المكان كانت تدور أحاديث المواسم والحياة الاجتماعية وكل ما قد يخطر في البال من أحاديث، وإلى جانب غاية الطحن يزور المطحنة الرجال من كبار السن والشباب.

وكانت الجلسات فيها الكثير من المتعة تذيب حالة التعب والجهد الذي تتطلبه هذه المطحنة، ولغاية هذا التاريخ حرصت على أن تستمر المطحنة في العمل وأكثر الفترات اكتظاظاً بين شهر أيلول وتشرين الثاني من كل عام حيث يستعد الأهالي لموسم الشتاء، وأتذكر في ذلك الزمن الأجور التي تستحقها المطحنة مقابل كيلو الطحين و"الكشك" وكانت تعد بالقروش، وعلى الرغم من قلة العمل في بعض الفترات كانت المطحنة تدار كل يوم، وكنت في أوقات التدريس أديرها في الفترة المسائية لتكون في البداية خدمة لأبناء قريتي وصورة تراثية قديمة يصعب إحالتها إلى التقاعد لأنها من وجهة نظري قوية لم يفتر فيها نبض الحياة».

الجدير بالذكر أن مطحنة "عرمان" تتوسط قرية "عرمان" الواقعة إلى جنوب شرق مدينة "السويداء" بـ/35/كم، ومساحتها تقارب /200/ متر مربع، مبنية من الحجر ولم يتغير شكلها رغم مرور الزمن.