إن أي نتاج إبداعي يرتبط بجذور النفس البشرية، ويتفاعل بعمق مع الوجدان قبـل أن يصل إلى العالم الخارجي.

هذا الإبداع ينشأ نتيجة الصراع داخل نفس المبدع من جهة، وبين المبدع والمجتمع من جهة أخرى، والمبدع لايمكنه التعبير بحرية مطلقة أمام المجتمع، الأمر الذي يؤدي به إلى شعور بالألم والحرمان والقهر، هو ما يؤدي به إلى الإبداع، فالإبداع لحظة حرية مطلقة.

إن عقدة النقص التي تصيب المبدع هي التي تجعله يسعى نحو الإبداع الأدبي أوالفني، وتلك العقدة تدخل في باب الإعاقة التي تصيب الإنسان نتيجة إعاقة جسمانية حسية أو نتيجة إعاقة نفسية معنوية، والفرق واسع بين الإعاقتين، فالإعاقة الجسمانية يسيرة إذا ما قورنت بالإعاقة النفسية التي هي أشد شراسة .

إبراهيم المازني

وجلّ الله في خلقه فإن حرم الإنسان من نعمة ما كالسمع أو البصر أو غير ذلك عوّضه بحاسة أخرى، أو جعل الحواس الأخرى تؤدي عملها بغير تكاسل، متناسية تلك الإعاقة الأمر الذي يدفع المعاق إلى إظهار ذاته ووجوده، وتفجير الكمال الكامن فيه بقوة الخلق، فالله عـزّ وجلّ حين نفخ الروح في الإنسان أعطاه قدرة على الكمال، فكلما اقترب الإنسان من ربـه حقق شرط الكمال والإبداع، وكلما ابتعد خاض في القبح والحرمان، فالإيمان بالله عز وجل هـو شرط الإبداع ولابد لهذا الإيمان من إرادة.

هذه الحقيقة تختلف من حضارة إلى أخرى بحسب موقفها من المفاهيم التالية: الله والإنسان والكون، ففي حضارتنا العربية الإسلامية نعتقد أن الله هو المتصرف بكل شيء، ولذلك ننظر إلى الإعاقة من خلال التسليم بأمر الله مع الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى العلاج، وكـم من مؤمن معاق يتمتع بنفس راضية سعيدة، لأنه سلّم أمره إلى الله سبحانه وتعالى.

ومن هنا يمكن القول أن مصدر الشفاء في الإعاقة ليس نابعاً من هذه الإعـاقة بحد ذاته، وإنما نابعاً من عدم رضى النفس واستعلائها عليها وهذا نقص في الإيمان والعياذ بالله.

وفي تراثنا العربي الإسلامي الكثير من الأدباء الذين أبدعوا وهم معاقون، ولم تقف الإعـاقة حاجزاً بينهم وبين الإبداع على اختلاف درجة إيمانهم بالله عز وجلّ، لأنهم اتصفوا بشخصيـة قوية وهمة عالية، فكل ذي عاهة جبار كما يقال، ولو كانوا أصحاء لما احتاجـوا إلى تفجير كوامن الإبداع التي وهبهم الله إياها، ذلك أنهم لايشعرون عندها بأي نقص، بخلاف المعاق فإنه يسعى إلى إظهار كماله وإنه لايختلف عن الناس بأي شيء.

فعاهة العمى عند بشار بن برد لم تمنعه من الإبداع بل وصلت به هذه العاهة إلى حـــد تجاوزها، يقول:

عميت جنيناً،والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلا

ويقول:

عجبت فطمة من نعتي لها هل يجيد النعت مكفوف البصر؟

بينما عاهة العمى عند أبي العلاء المعري عدّها محنة قاسية وإشكالية كبيرة في حياته، ومن ثم عكست نظرته السوداوية إلى الحياة، يقول:

أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبـيـث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيث

ويعلق طه حسين الذي أصيب أيضاً بالعمى نتيجة إصابته بمرض الجدري: نشأ بشار بن برد يتمدح بآفته جهراً، ونشأ المعري لا يذكر هذه الآفة إلا كارهاً، فإذا تحدث عنها قال: إنهـا عورة يجب أن تستر.

وفي تاريخنا العربي المعاصر هناك الأديب مصطفى صادق الرافعي الذي فقد سمعه، فكانت إعاقة الصمم دافعاً له نحو الإبداع والعبقرية، ذلك أن الكون من حولـه صـامت بغير ضجيج أوضوضاء، الأمر الذي يدع له مجالاً واسعاً للغوص في أعماق ذاته، فكانت وسيلته للتفاهم مع الناس هي الكتابة، إذ يكتب ما يريد للناس على ورقة ومن ثمّ يأيته الجواب مكتوباً.

بيد أن الرافعي كان يؤمن إيماناً لا شك فيه بأن سمعه سيرتد إليه ذات يوم، وذلك نتيجة ثقته بقدرة الله عز وجل، وقد ذكر مؤرخه محمد سعيد العريان أنه كان يردد دائماً هـــذه المقولة:

"إنني حينما أسجد لله في الصلاة، سأنهض ذات يوم وقد رد الله عليّ سمعي".

وهناك الأديب إبراهيم عبد القادر المازني الذي أصيب بالعرج وبمرض النورستانيا، وكذلك الشاعر علي محمود طه الذي أصيب بالشلل في آواخر حياته، وهوالذي كتب قصيدة عنوانها: (الموسيقية العمياء ) حينما التقى بحسناء تعزف على القيثار وتترأس الفرقة الموسيقية وقد حرمت من نعمة البصر، يقول:

إذا ما أقبـــل الليل وشاع الصمت في الوادي

خذي القيثار واستوحي شجون سحـابة الغادي

وهزي النجـم اشفاقاً لنــــجم غير وقاد

لعل اللحــن يستدني شعــاع الرحمة الهادي

مهما يكن من أمر فإن الإعاقة عند الأدباء لا تتمثل بالعمى أو الصمم أو الشلل أو غير ذلك، بل تتعدى إلى الإعاقة النفسية التي هي أشد خطراً من الإ عاقة الجسدية، وعلى هذا يمكن القول أن المعاق جسدياً يستطيع أن يبدع، أما المعاق نفسياً– وخاصة في مرحلة فقدان العقـل– فإنه يستحيل عليه الإبداع، لأن الإبداع عمل عقلي معرفي واع وحر.