لو خُيّرتْ بين المال والسلطة والشعر لاختارت الأخير، لإدراكها أن الشاعر يمتص الصدق من شفتي الحياة المسممتين، هي شاعرة مفتونة بالشعر كما يفتن الطائر بفضائه الرحب الفسيح، لقصائدها إيقاع يطربك ولكلماتها بوح آسر يتغلغل في أعماق روحك ليوقظ تلك المشاعر التي جهدت زمناً في إخفائها.

الشاعرة "رانية جمال الدين" شاعرة متمكنة من أدواتها الشعرية، خطت طريقها بكثير من الصبر، هي اليوم ضيفة مدونة وطن eSyria التي سجلت معها هذا اللقاء بتاريخ 2/8/2013:

قصيدة النثر أو النص النثري لا تزال حالة إشكالية كبرى من ناحية قبول الجمهور لها، ومن ناحية خصوصيتها كفن إبداعي منفصل، الجمهور العربي ورث ذائقة تقوم على أن أول ما يتوقع من النص الشعري هو التطريب، فيكون بحثه الأول عن الإيقاع الحسي الذي يؤسس الوزن بمفرداته المعروفة التقليدية، وحتى حينما ولدت قصيدة التفعيلة وهي من موزون فيه قدر كبير من الإيقاع والطرب، واجهها الجمهور بكثير من العداوة والرفض، واحتاجت لأكثر من 40 عاماً حتى أثبتت حضوراً قوياً، أما بالنسبة لقصيدة النثر فإن غياب الطرب الظاهري منها وشغلها على المنحى النفسي أكثر، حرمها من أن تكون قصيدة منابر وظلت أقرب إلى حالة القراءة والتمعن الفكري، لذلك كله فإن الذين نجحوا في تقديم قصيدة نثرية بمستوى عال من القبول كانوا قلة لعجزهم غالباً عن تقديم بدائل فنية لعنصر الطرب الغائب

  • تملكين ذاكرة تختزن مفردات لغوية مميزة هي قوام قصائدك، فما الذي تختزنه ذاكرتك من فترة الطفولة؟
  • الأديب "موفق نادر"

    ** هأنذا أمشي على رؤوس أحلامي, كي لا تنفرط جعبتي وأعود إلى لملمة شتاتي, أتكئ على خرائب عرشت عليها الكلمات, وبحذر أطرق نوافذ الذاكرة لتظهر صورة والديّ وقد علَّماني بالدمع والفقر والانتظار، علماني الإصرار وكيف أنال الجوهر عندما تسقط قشور الأحياء والأشياء.

    تلميذة متفوقة هكذا يقولون أو ربما مشاغبة لطالما خبأتُ في حقيبتي تبغ التمرد, مناشير ضدَّ الوساطة وأقلام الكلام الحر، مفتونة بالشعر منذ أن كنت في التاسعة من عمري مولعة باللغة العربية والوزن والقافية وأنا مدينةٌ لمعلميّ "شاهر نصر" و"نبيل الجرمقاني" اللذين قلَّداني سراً للوجود أزعمُ أن قلة من الناس يمتلكونه، ومن يومها وأنا تلميذة للغيم أسابق الصبح وأحلم بالربيع غيرَ آبهة بأنساب الرياح.

    عندما انتقلت إلى المرحلة الإعدادية في ثانوية الشهيد "كمال نصر" في "عرمان"، أكثر ما أسعدني وجود مكتبة كبيرة وجدت ضالتي بين غبار كتبها، وكتعويض عن شهيتي للقراءة ربما قرأت كتباً لا تناسب عمري مثل رواية (الأم) و(طفولتي) "لمكسيم غوركي"، و(تلك الأيام) "لقسطنطين فيدين"، وقرأت كل ما وقع عليه نظري ويدي "لجبران خليل جبران"، والذي احتل ذاكرتي ديوان (العصافير تموت في الجليل) "لمحمود درويش" الذي كنت أحفظ قصائده عن ظهر قلب وأرددها وألقيها في طقوس كتاباتي الأولى.

  • درست اللغة العربية فهل كان هذا الخيار كوسيلة للتمكن من أدواتك الشعرية؟
  • ** حصلت على البكالوريا الفرع العلمي وكل ظني أنني سأدرس "ر, ف, ك"، لكن شاءت الظروف ودخلت كلية الآداب في "دمشق" قسم اللغة العربية، "فهو فرع نظري لا يحتاج إلى دوام كما كانت تقول أمي، كنت أخفي في أدراجي خواطرَ وقصائد وهواجسَ في الرسم تهشيراً على ذاكرة الأيام، لكنني مع الأسف قمعت هذا الولع بالتقاط الملامح وتحنيط الألم فربما نحن هكذا مبرمجون أن تدمر أحلامنا ذاتياً عند استحالة تحقيقها.

  • مشاركاتك في المسابقات قليلة ورغم ذلك حصدت جوائز مميزة، فأين كانت هذه المشاركات؟
  • ** مشاركاتي في المسابقات قليلة، فكيف لي أن أشارك في مسابقة والكتابة بالنسبة لواقعي نشاط محظور أصلاً، ليست عاقبته السجن في زنزانة منفردة بل حرباً باردة تستنزف الأعصاب وتشوه إنسانيتك، والكائن البشري القابع في ظلمة أعماقك، طبعاً لا أنسى فوزي على مستوى القطر في الفصاحة والخطابة عندما كنت في المرحلة الابتدائية، وكانت لي مشاركات خجولة في مسابقات للشبيبة على مستوى المحافظة، فقد شاركت في مسابقة في "قدسيا" بمحافظة "ريف دمشق" أجرتها الشبيبة.

    والمسابقة التي تقدمت إليها مؤخراً هي مسابقة أجراها فرع الاتحاد النسائي في "السويداء" وفزت بالمرتبة الأولى عن قصيدة بعنوان" شاميَّة والخيلُ جموح النخيل" في عام 2012م، وهذه مقاطع منها:

    أنا صيفُ وجوهكم

    هطولُ المساء

    بحةَّ القصبِ

    إذْ أومأَ للغدير: أن يكتمَ سرَّاً

    بينَ المياه والشَّجر

    كفى على صمتي تباركون

    خرافةَ أمجادِكم!

    إنْ شئتُم

    عادت بمنجلِها الحياةُ

    تفضُّ حقولي السَّمراء

    وتحصد حلميَ الغافي

    على طيفه

    وإنْ شئتم

    دُكَّت غيومي بالرَّماد

    وحسبي أنني

    رُزِقتُ من رحمِ خُطاه

    محرقاً للحبِّ والأمنيات

    يشيّعني إلى منفى نيرانه

    تُطَهِّرُ جراحي الثكلى,

    وأرملةُ الشتاء عادت

    بعد أن صكّت على المطر

    أمانيها

    أغانيها

    تلتقِطُ أنفاس الربيع

    تقبضُ على كلِّ شعاع

    يحملُ نزوةَ المطر

    ........على تربة

    ضجّت بخطواته

  • بقصائدك أي الموضوعات طرقت، وماذا عن إصداراتك الشعرية؟
  • ** بحذر طرقت جوانب من الحوار الداخلي الذاتي لكل إنسان وكل أنثى، حرصت على مخاطبة الروح الإنسانية التواقة للانعتاق والحرية، كانت لي بعض النصوص الملتزمة التي تناولت ما يحدث على أرض سورية الحبيبة.

    لا أكتب لكي أشفى كما يقول البعض، لأني لست مصابة إلا بإنسانيتي وإيماني، أكتب لأدافع عن تطرف الحزن لأعبر كل السهوب المفخخة بالفجائع وأبرم صفقة مع العصيان.

    صدرت مجموعتي الأولى عن وزارة الثقافة بدمشق بعنوان "دعوة للرقص مع النرجس"، لكن حتى في هذه قد عاكستني الظروف فالمجموعة مازالت في مخزن الكتب بدمشق ولم توزع على المراكز الثقافية في المحافظات بسبب الظروف، لكن يمكن لمن يشاء قراءة الكتاب تحميله من موقع الهيئة العامة للكتاب، مجموعتي الثانية "على حدود القصيدة" قيد النشر في اتحاد الكتاب العرب».

    الأديب والشاعر "موفق نادر" موجه الاختصاص لمادة اللغة العربية في "السويداء"، والمطلع على تجربة الشاعرة "رانية جمال الدين"، في حديثه لموقعنا تحدث بداية عن قصيدة النثر قائلاً: «قصيدة النثر أو النص النثري لا تزال حالة إشكالية كبرى من ناحية قبول الجمهور لها، ومن ناحية خصوصيتها كفن إبداعي منفصل، الجمهور العربي ورث ذائقة تقوم على أن أول ما يتوقع من النص الشعري هو التطريب، فيكون بحثه الأول عن الإيقاع الحسي الذي يؤسس الوزن بمفرداته المعروفة التقليدية، وحتى حينما ولدت قصيدة التفعيلة وهي من موزون فيه قدر كبير من الإيقاع والطرب، واجهها الجمهور بكثير من العداوة والرفض، واحتاجت لأكثر من 40 عاماً حتى أثبتت حضوراً قوياً، أما بالنسبة لقصيدة النثر فإن غياب الطرب الظاهري منها وشغلها على المنحى النفسي أكثر، حرمها من أن تكون قصيدة منابر وظلت أقرب إلى حالة القراءة والتمعن الفكري، لذلك كله فإن الذين نجحوا في تقديم قصيدة نثرية بمستوى عال من القبول كانوا قلة لعجزهم غالباً عن تقديم بدائل فنية لعنصر الطرب الغائب».

    وعن تجربة الشاعرة "جمال الدين" أضاف: «"رانية جمال الدين" واحدة من القلة ممن كتبوا هذا الجنس الأدبي، نجحت إلى حد ما في حماية قصيدتها من حالة الاستنكار سلفاً وأظن أن أبرز ملامح فنية اشتغلت عليها أن لغتها على مستوى المفردات والجمل فهمت الفرق النوعي بين الحقيقة والمجاز، فأضاءت اللغة من الداخل بدلالات تخرجها عن نسق الفهم العادي، وحملتها انخطافات فنية تجعل المألوف طريفاً وغير عادي.

    هذا على مستوى جزئي، والتفتت كلياً إلى الابتعاد قدر الإمكان عن نثر القصيدة إيحائياً، فجعلتها تصعد درامياً مم يمكن القارئ للنص بأن يخرج بانطباع متماسك يمكن له أن يستعيد ولو شذرات منه بعد مغادرة النص، بينما نجد غالباً عند الآخرين نصوصاً لا تتسم باكتمال الحالة الشعرية، بل هي محض عبارات متفرقة قد تحمل دلالات شعرية ولكنها لا تتصاعد نحو منحى متكامل.

    وليست النصوص التي كتبتها "رانية" متشابهة في هذا الحكم مثل أي تجربة شعرية، باعتبار أن بعض النصوص أغرتها فيها حلاوة الكلام، فاستطردت أحياناً لتضخ عبارات قد يكون حذفها لمصلحة النص».