الرواية بوصفها جنساً أدبياً تبقى في حال تشكل دائم وصيرورة مستمرة، لأنها تستمد وجودها وكيانها من مجتمع وظرف تاريخي يمر بالحياة ولا يعرف السكون، فالرواية مرهونة بالواقع الذي ينتجها، يتسع أفقها بغناه وتجدد أبنيته التي لابد ستفيض على الأدب مكسبة إياه شكلاً خاصاً، فتكون الأشكال الروائية المتعددة بصياغاتها المختلفة وليدة هذا الحراك الحي في عروق المجتمع الحاضن.

القاعة "5" في كلية الآداب- قسم الفلسفة كانت مسرحاً لمناقشة رسالة الماجستير باللغة العربية للباحثة "نوال الحلح" والتي حملت عنوان "تقنية السرد عند الروائي هاني الراهب"، وموقع eSyria التقى المشرف الأستاذ الدكتور "غسان السيد" الذي تحدث بتاريخ 3/8/2009 قائلاً: «كانت رسالة الباحثة ثمرة جهد قامت به اعتقاداً منها أن دراسات السرد لم تأخذ حقها في البحوث السورية، كما هو في المغرب العربي، حيث استفادوا من الدراسات اللغوية بشكل كبير ونحن مقصرون في دراساتنا للسرد وتقنياته ولهذا سلطت الطالبة الضوء على تطور السرد عند الروائي "هاني الراهب" الذي يعد من الروائيين المميزين في الوطن العربي عامة والسوري خاصة وحاولت أن تنقل التطور بين روايته الأولى والأخيرة والتي ظهرت بعد وفاته ولهذا استحقت درجة الماجستير بجدارة».

كانت مجدة وتحب العمل وسعت لتحقيق هدفها، واليوم إن شاء الله تكلل تعبها بالنجاح ونحن نتأمل منها الاستمرار للحصول على الدكتوراه، وأنا كأم فرحتي كبيرة ولا استطيع التعبير عنها إلا بالدموع

وعلى هامش المناقشة التقى موقعنا الباحثة "نوال الحلح" التي أوضحت ما جاء في بحثها قائلة: «استمر النقاد يحاولون القبض على قوانين ذلك العالم الذي تحمله الأعمال الروائية، ولأن الأدب إبداع، فإنه يصعب وضع قوانين عقلانية ناظمة له، وذلك لأن الخلق الفني، مهما صيغت حوله النظريات، يبقى في تفلّت من النظام الموضوعي للعالم، فكل كاتب يخلق عالمه الداخلي وخصوصيته الإبداعية كي يتوصل إلى تبليغ خطابه، وقد اعترض بعض النقاد على المحاولات الجاهدة لتأطير فضاء الإبداع بخطوط بيانية نقدية عقيمة، تحرمنا من فرصة التمتع بالأعمال الإبداعية الهامة، بعد أن غدا النقد خرائط جافة، تفتقر إلى التذوق الجمالي وتسعى إلى حشر الإبداع الروائي بخطوط وزوايا ومعادلات.

المشرف الأستاذ الدكتور غسان السيد

فعبثية الإبداع هي قاعدته وسر جمال صنعته، وهذه الدهشة التي تعترينا عند قراءة العمل الإبداعي عصية على القوننة والتأطير، ولكننا لا نزال نحاول القبض على بعض أسرار هذه الصنعة، علها تخولنا كشف خفاياها للوصول إلى متعة المعرفة بهذا الفن الجميل، وهنا سنقف عند أبرز ما ميّز سرد الراهب الروائي، وأعطاه سماته الخاصة ونجمل هذه السمات في النقاط منها تأرخة السرد أي النضح من المعين التاريخي الذي يمتد على مساحة زمنية تغطي حوالي 3000 سنة، بوقائعه وشخصياته ومحمولاته الثقافية كلها من خلال سرد يجعل التاريخ يحاور بمراياه واقعنا ويرصد التشوهات والانكسارات التي تتوالى على المنطقة العربية ضمن دائرة مغلقة لا مفر منها، وشعرنة السرد أي تحريض اللغة لتفريغ كامل طاقاتها من خلال لغة كثيفة مرمّزة بليغة حينا، ولغة بسيطة في الحوار تغرف من معين العامي وتليّن الوعر الفصيح ليصبح قريبا من المحكي المسموع بين الناس حينا آخر، ولو كان ذلك على حساب الصحة اللغوية، لكنه يبقى مفهوما وقابلا للغفران "برأيي" لأنه يختزن النكهة المحلية، لتصبح هذه اللغة الوسيطة تجربة تهادن الناقد قليلا لمصلحة القارئ ولمصلحة الشخصية غير المجبرة على استخدام اللغة الفصيحة في حوارها الحميمي مع من حولها».

وأردفت تشرح أهم النقاط التي ميزت سرد الروائي "هاني الراهب" بقولها: «ومن النقاط أيضاً استنهاض الموروث السردي وتوظيفه لخدمة العمل الروائي من المقامات و"ألف ليلة وليلة" والمرويات التي تخص المحمول الديني من قرآن وإنجيل وتوراة وكذلك الأمثال الشعبية والأساطير، وديمقراطية المؤلف حيال الشخصيات: بقيت الشخصية في الرواية التقليدية حتى بداية القرن العشرين هي المحور بحيث لا يمكن وجود رواية دون طغيان شخصية أساسية، تقوم بدور البطولة فيها في روايات حنا مينه وروايات "حيدر حيدر" و"غسان كنفاني" و"نجيب محفوظ" و"غادة السمان" وغيرهم، والتجريب وتشظي المكان والزمان في "رسمت خطاً في الرمال"، وهو التجديد الأهم الذي شكل فارقا جوهريا عن معظم أعمال الراهب الروائية، وتعدد البؤر السردية بسبب كثرة عدد الأصوات الساردة.

الباحثة نوال الحلح

هذه البؤر المتعددة فرضتها مقاربة الحقيقة المتعددة الوجوه التي لا يستطيع فرد واحد الإحاطة بها جميعا، فكلٌ يراها من زاويته ليسرد بضمير الأنا وبصوته الخاص ما يثقل كاهله، وتشظي الفعل الروائي برمّته، فالحدث الروائي لا يتنامى ولا نشهد له أي تصاعد، والشخصيات لا تطور الأحداث، ولا تسعى بالتالي إلى بلوغ ذروة ما، بل هي تنحّي الفعل جانبا لتتفرغ للبوح بأرقها وشجونها وتفصيلاتها اليومية التي تشكل بمجموعها الهم العام المتجلي عبر الأفراد، وتخلخل الترتيب الزمني المنطقي بين الوقائع والفصول: ففي حين نجد هذا الترتيب غير خافٍ في "المهزومون" و"خضراء كالحقول" و"الوباء" نجده يتخلخل بمواربة في "ألف ليلة وليلتان" بسبب تفتت المجتمع وتقهقره تحت وطأة الفقر والجهل والأحلام المهزومة، ورصد التحولات الكبرى التي تطرأ على المجتمع العربي عبر التركيز على الطبقة الوسطى وانهيار مشاريعها وأحلامها الفردية، وتوظيف الخيال واللامعقول للوقوف على رداءة الواقع العربي وضيق الرؤية الذي يسيطر على عالمنا المعاصر، وتضافر القلق الوجودي مع النقمة السياسية والاجتماعية مع هاجس الحداثة والتغريب، لتشكيل نصوص الراهب.

والنصوص تتفاوت في فنيتها، ولكنها جميعا تتميز بشخصيات إشكالية، يحكمها القلق وهو قلق الذات أثناء سعيها لمعرفة نفسها، ومعرفة موقعها من المجتمع ومن الحضارة، هذا القلق الذي لخصه "هاشم الحسيني" في معرض تقديمه مسرحية الأبواب لـ "جان بول سارتر" بقوله: "والقلق من مميزات الفلسفة الوجودية التي تصور الإنسان تائها في مجالات الحياة تعتريه رهبة تجاه كل أمر جديد، ويتمثل القلق على الصعيد الفردي خاصة، إذ إن لكل فرد تكوينا ذاتيا يميزه عن الآخر، غير أن القلق يصبح مشتركا بين الجميع من خلال وجوده في الأفراد"، وهذا القلق، غدا سمة عامة من سمات نصوص الراهب الروائية».

سمية شقير والدة الباحثة

والدة الباحثة "سمية شقير" عبرت بالدموع عن فرحتها قائلة: «كانت مجدة وتحب العمل وسعت لتحقيق هدفها، واليوم إن شاء الله تكلل تعبها بالنجاح ونحن نتأمل منها الاستمرار للحصول على الدكتوراه، وأنا كأم فرحتي كبيرة ولا استطيع التعبير عنها إلا بالدموع».

الفنان "زياد حرب" زوج الباحثة بيّن قائلاً: «تعبت "نوال" في بحثها وحاولت أن تغطي ما أمكن من جوانب البحث علمياً وهي جديرة أن تنال درجة الماجستير وقد تكلل حبنا العميق بالنجاح وحصولها إلى ما تريد مع التأكيد أن تستمر لتنال الدكتوراه بجداره فهي قادرة على ذلك، وأنا لن أتوانى عن تقديم ما أستطيع لمساعدتها».

يذكر أن الباحثة "نوال الحلح" قد حصلت على درجة الماجستير بتقدير "جيد جداً" ومعدلها 80 درجة.