الشباب- دون أدنى شك- هم عصب كل المجتمعات، ولعل أهميتهم تأتي من كون المجتمعات تمر بتيارات عنيفة من التغيرات ولعل أكثر المتأثرين بهذه المتغيرات المتلاحقة هم الشباب، والسبب يعود أيضاً إلى أن هذه المرحلة من عمر الشباب تشهد تحولات وتغيرات جوهرية في اهتمامات الشباب وسلوكهم الاجتماعي واتجاههم نحو الاستقلال والفردية، وهذا ما يخلق التناقض بينهم وبين البيئة التقليدية التي تحيط بهم فهم يريدون أن يحرروا أنفسهم من قيود الأسرة والمدرسة والمجتمع وأن يختاروا محيطهم الذي يندمجون فيه ويتكاملون معه ويكونون قادرين على اتخاذ القرارات وتحقيق الذات.

هنا يأتي دور الإعلام نظراً لأهميته وتأثيره باعتباره النافذة الأهم للتواصل البشري والقناة الأمثل في التكوين المعرفي والاطلاع الحضاري، لدرجة جعلته النسيج الضروري لحياة الشعوب عبر العالم والبنى الأساسية في بناء وجود الأمم، وزاد من شأنه عمقاً ومن دوره تأثيراً، ما شهده العقدان الأخيران من تطور تكنولوجي هائل هيأ الدعم المباشر لثورة إعلامية تبدت أبسط تجلياتها بالقدرة على عبور الأرض عبر ما أنتجته من فضاءات، ونحن بدورنا لا نستطيع أن نتجاهل ما يحصل الآن في عصر العولمة والتي هي مشروع كوني للمستقبل كما يطمح واضعوه ومفكروه والداعون إليه، لذا فإن الجيل الجديد هو الأسبق بالتعاطي مع هذه العولمة وأدواتها، فالكمبيوتر والإنترنت وشبكات المعلومات، أصبحت في متناول الجميع بسهولة ويسر، بالإضافة إلى أنماط السلوك والمعيشة التي تطرحها العولمة من عادات ثقافية موجهة بشكل خاص للشباب، لأنهم الأقدر على الاستجابة والتقبل السريع لأي مفاهيم جديدة خارجة عن المألوف، خاصة إذا كانت تقدم بوسائل باهرة وبطرق تقنية تؤثر في نفوسهم وفكرهم وبالتالي في سلوكهم، وقد يتساءل البعض: ما دور الإعلام؟

نعلم أن فكرة العولمة هي ظاهرة اقتصادية في فحواها وخلفيتها وأبعادها، وما علاقتها بباقي مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية تحديداً، سوى مظاهر لنتائج تطبيق وإسقاط ظاهرة العولمة الاقتصادية على هذه المجالات، وبما أن الإعلام أحد أعمق الجوانب الحياتية تأثيراً في كيان الفرد والمجتمع إلى حد أنه صار بمقدوره خلق مجتمع جديد من مجتمع قائم، متغاضياً عن كل خصائصه السابقة وذلك بما توصل إليه من تقنيات ترغيب وأساليب جذب تخاطب نفسية الإنسان بمداعبة عواطفه لتكسبها، ومحاكاة مشاعره لتربحها، وباتباعه منهجية إقناع ومنطق تحاور العقل لتبرمجه وتفاوض الإدارة لتسيرها.

الإعلامية "ميساء سلوم"

وأمام ما اختص به الإعلام من قدرات فائقة الأهمية، اندفعت الجهات والدول المنادية بالعولمة إلى اعتماده الأداة الأنجع، واتخاذه الوسيلة الأنجح لأجل تحقيق طموحاتها، علينا أن ننتبه جيداً ونعي مسؤولياتنا جيداً وندرك أنه كما يوجد صناع للثقافة والسياسة أصبح هناك صناع للفكر الإعلامي، هؤلاء يستطيعون أن يؤثروا حتى يغيروا حسب ما تقتضي مصالحهم وسياساتهم وأغراضهم.

كم هي صعبة وشاقة تلك المسؤولية الإعلامية والفكرية عندما نعرف ونعي أن من يحكمها له أمزجته الخاصة وأفكاره ومعتقداته ومصالحه وتعصبه أيضاً، وبالتالي يتبدى تأثيرها الذي يمكن أن يسهم في تردي المجتمعات والقيم، ولا ننسى أن الإعلام مجاله الفكر ومن يؤثر في الفكر، ومجاله القيم ومن يؤثر في الجوهر، والإنسان فكر وجوهر؟.

علينا فهم الشارات التي تردنا، ونعرف منها الصحيحة التي ستؤدي بنا إلى بر الأمان، كيف نعرف؟ وما الوسائل والطرق؟ وما الأدوات والسبل؟

دعونا نبدأ معاً، نتحاور.. اليوم نحن بحاجة للحوار، لا لتلقين دروس وأوامر، خاصة أننا أصبحنا في وقت- وهذه حقيقة- يكاد حتى الآباء يفقدون الموقع الذي يخولهم كما في السابق أن يقولوا لأبنائهم ماذا يفعلون، وماذا لا يفعلون، والسبب يعود بالطبع إلى أنهم لم يعودوا يملكون معظم الإجابات عن الأسئلة الكثيرة (أنا لا ألغي دورهم بل طريقتهم) فليتحاور الآباء والأبناء إن استطاعوا، تتفقون معي بأن التلفزيون هو مدرسة الشعب المفتوحة على مدار 24 ساعة والأكثر توافراً وبالتالي أكثر تأثيراً، وهذا ما جعله يتحمل المسؤولية الضخمة في التأثير ليس على الشباب فقط وإنما على المجتمع.

واهتم الباحثون أيضاً بتقويم واقع الثقافة في الإعلام من خلال مناظير متعددة واتفقوا على تحديد معايير أساسية عامة وهي:

المعيار الأول: الموقف من الحرية، يعني أنه لا يختلف اثنان على أن الثقافة والديمقراطية هما الشعار الأفضل.

المعيار الثاني: فهم الواقع بالتحليل العلمي، وهذا شيء هام، لأنه لابد من تعميق صلة الإعلام بالعلم.

المعيار الثالث: فهم العالم، والمقصود مد الجسور وفتح النوافذ، ولا يستقيم هذا الفهم، برفض العالم بزعم اختلاف الثقافات.

المعيار الرابع: الحوار، بوصفه جوهر الموقف الإعلامي الثقافي والاجتماعي.

المعيار الخامس: الرؤيا، هذا معيار غريب جداً لم نعره أي اهتمام ولكن أحبه وأحترمه كثيراً وهذا ما يتعلق ليس فقط بثقافة الإنسان وفكره وإنما بقيمه التي هي جوهره، الكتاب المقدس يقول: "بدون رؤيا يجمح الشعب"

هذه الرؤيا التي تتلمس للأصم آذاناً وللأعمى عيوناً وللكسيح أقداماً، شيء رائع، هنا بدأنا نسمو فوق العقل والفكر، نسمو بالروح، والإنسان جسد ونفس وروح، هذا نستطيع أن نسميه: أخلاقية الإعلام.

من هذه المعايير والمحاور يأتي تأثير وسائل الإعلام على أنماط وسلوك العيش والأفكار لدى الناس، فالإعلام هو الأسرع والأسبق نحو تجسيد الرؤى في كل مقوماتها، علينا أن ننتبه هل هناك إذابة لأفكارنا ومعتقداتنا وبالتالي لقيمنا؟

والجواب هو أن القيم هي الجوهر وهي العلامة الفارقة في الهوية البشرية وتستمدها من جذورها الفكرية والعقائدية ولأن الإعلام هو المسؤول الأكبر عن انتشار القيم وهو مسؤول عن ترسيخ أنماط العيش والسلوك الاجتماعي ونشر الأفكار الدخيلة وهو من يرسخ قيماً ويخاطب الغرائز لدى الشباب، في هذه الفترة بدأنا نرى الإعلام قد عمق تناوله للجانب الروحي فانتشرت البرامج الدينية وكثر المتحدثون والمفسرون في حوارات مباشرة مع الجمهور وتوالت الندوات بل ظهرت قنوات دينية متخصصة، والدين يكون في أغلب الأحيان عنصر نزاعات وحروب في الوقت الذي يجب أن يكون فيه عامل سلام وتغيير لأنه العلامة الفارقة في الهوية البشرية وخاصة في مجتمعاتنا والتي يستمدها من الجذور الفكرية والعقائدية التي تؤمن بها، نحن اليوم بحاجة إلى وسائل إعلامية أخلاقية يحمل أصحابها في داخلهم شرعة إنسانية وميثاق شرف تلزم نفسها فيه بضمير متسامح إزاء الآخر ومحترم للعقائد والشعائر والتقاليد التي يمارسها أو يعتنقها هذا الآخر بعيدة عن التحريض والتعصب والتشويه وإفساح المجال أمام الحوار البناء من أجل بناء مجتمع سلام ووحدة إنسانية بعيداً عن كل أشكال التمييز وهذا ينطوي على مبادئ بل قواعد سلوكية وأعني شرعة تنطلق من شرعة الإنسان في إنسانيته وبحثه عن معنى في حق وحق في معنى، لا عن ممارسة باسم العقيدة والدين وكأن به يمارس الدينونة قبل أن تأتي الدينونة نيابة عن الله.