عندما تنفد المؤونة من البيوت كانت "جورة القمح" ملاذ الأهالي الآمن في سنوات القحط، حيث يتشاركون في حفظه فيما بينهم لأشهر قادمة من أجل عدم الوقوع في العوز عندما يخذلهم المطر ويقل الإنتاج.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 30 تشرين الأول 2015، بحثت مع كبار السن في قرية "الثعلة" لتتعرف إلى طريقة الأجداد التي اتبعت بمنطق التشاركية للحصول على الغذاء بإجراء بسيط اعتمد على الجهد والتعاون ليحفظ القمح عائلة أو شخص؛ وفق حديث المدرّس المتقاعد "مزيد الحمد" من أهالي القرية؛ الذي تحدث عن هذه التجربة بالقول: «كان لمنطق التشارك مفاهيم كثيرة أكبر من الواجبات الاجتماعية، حيث كان الغذاء محدوداً وكان القمح مادته الأولى والوحيدة في أغلب الأحيان، لذلك تعامل أهالي قريتنا مع الفكرة بمنطق الجماعة، حيث تعد "الجورة" في مواسم أنتجت فيها الأرض وفير خيرها من القمح وتستمر عدة أشهر مختزنة خيرها في باطن الأرض؛ لتفتح لغاية كفاية الأهالي مع موسم البذار أو قبله بقليل لتأمين حاجة العائلة من الغذاء. لكن الجميل في ذلك أن العائلة أو الشخص الذي يمتلك "الجورة" ومن أودع بها خيرات أرضه يفتتحها ليقدم لمن يملك المال حاجته، ولعدد من الأهالي كميات يسدها المقترض بعد الموسم، وكان أيضاً للخير والعطاء وجود ليقدم منها للأسر الفقيرة كميات تسد الرمق كي لا يبقى محتاج بين الأهالي، وفي ذلك الزمن كانت أسر كثيرة تتعرض للحاجة؛ بالتالي فإن المستفيدين كثر من هذه "الجورة" التي تتسع لكميات كبيرة وتصمم وفق الطلب وما توافر من أقماح».

إذا أردنا العودة إلى اختيار مكان "الجورة" فهو حسب المتوافر من أمكنة في بيدر قريب أو قطعة أرض قريبة من المنازل، والمطلوب أن تكون بعيدة عن السيول والوديان والماء بوجه أساسي، ومن العائلات التي كانت تعتمد هذه الطريقة آل "العبد"، و"العبد الله"، و"حسون"، و"الحمد"، و"حبيب"؛ لتجد في القرية عدداً من "الجور" يكفي الأهالي لفترة من الموسم، وكانت تختلف من حيث الكميات، وقد تكون مئة "مد" أو أكثر؛ حيث إن "المد" مكيال متبع في المنطقة ويبلغ 20كغ كما هو معروف

طريقة الحفر وتصميم "الجورة" التي هي بالتعبير الدارج حفرة كبيرة تبطن بـ"التبن" وتحتاج إلى الخبرة في العمل لتكون صالحة لحفظ الحبوب؛ كما حدثنا المزارع "نجيب حسون" من قرية "الثعلة"، وقال: «أتذكر عهداً قديماً في قريتنا كنا فيه شباناً في مقتبل العمر نزرع لندخر لأسرنا خيراً يكفي لغذاء الجميع، ولأننا في أرضٍ لم تكن تزرع في ذلك الزمن إلا بالقمح وأنواع محدودة من الحبوب كالعدس والحمص والجلبانة والذرة، حيث كانت الزراعة مصدر العيش الوحيد الذي أجبر الأهالي على انتقاء الطرائق المناسبة لحفظ القمح لأطول مدة ممكنة كي لا يتعرض للأذى بفعل السوس أو غيرها من الحشرات، وكذلك الحماية من أذى القوارض. وكانت مهمة الشباب الحفر لعمق جيد يتناسب مع الكمية المخصصة للحفظ، ويتم هذا في مواسم الصيف وبعد "ذراوة" المحصول وجمعه على البيدر؛ حيث يقسم الناتج إلى قسم لمؤونة المنزل، وقسم للبذار، والباقي للحفظ بهذه الطريقة، ليأخذ القمح بحالته الطبيعية وقبل الصويل والتعرض للماء، ونكون بعد الحفر قد وضعنا طبقة من "التبن" كي لا يلاصق القمح التراب، وهي حماية مناسبة من حرارة الأجواء أو الرطوبة، وبعدها تتم إضافة القمح بالتدريج للمحافظة على طبقة "التبن"، وفي النهاية تغطى أيضاً به ويردم فوقها التراب، وهنا تكون "الجورة" قد اكتملت».

طرائق حفظ القمح قديماً

وعن العائلات التي كانت تعتمد هذه الطريقة وانتقاء مكان "الجورة"؛ يضيف العم "نجيب" بالقول: «إذا أردنا العودة إلى اختيار مكان "الجورة" فهو حسب المتوافر من أمكنة في بيدر قريب أو قطعة أرض قريبة من المنازل، والمطلوب أن تكون بعيدة عن السيول والوديان والماء بوجه أساسي، ومن العائلات التي كانت تعتمد هذه الطريقة آل "العبد"، و"العبد الله"، و"حسون"، و"الحمد"، و"حبيب"؛ لتجد في القرية عدداً من "الجور" يكفي الأهالي لفترة من الموسم، وكانت تختلف من حيث الكميات، وقد تكون مئة "مد" أو أكثر؛ حيث إن "المد" مكيال متبع في المنطقة ويبلغ 20كغ كما هو معروف».

ومن مخاطر الحفظ التي كانت في بعض الأعوام تعرض جزءاً من القمح للخسارة، التي تحدث عنها "حمد العشعوش" المهتم بالتراث وصاحب أحد المنازل التراثية في مدينة "السويداء"، حيث قال: «كان الفلاح في ذلك الزمن يمتلك القناعة بأن ما يبقى من المحصول هو الرزق المقسوم، لذلك فقد كان الأهالي عندما يعتزمون فتح "الجورة" ويجدون جزءاً منها قد تضرر بالسوس بفعل الحرارة أو بعض القوارض؛ يستفيدون من القمح "المسوس" ويضعونه مع البذار كي لا يرمى ويذهب سدى، أو يستخدم علفاً للحيوان، لكن في الأغلب كانت "الجورة" تعامل بعناية كبيرة، ومن الحالات القليلة تلك التي يخسر فيها الفلاح ما حفظ. لكننا اليوم ومع الطرائق المعاصرة لحفظ المنتج نستغرب تلك الطريقة، وكيف اهتدى الفلاح بفطرته إلى أساليب انسجمت مع العصر والظروف المناخية التي يسرت تلك الطريقة، ومع ارتفاع درجات الحرارة كان لزاماً على الفلاح استبدال طريقة "الجورة" ببيوت المؤونة التي ابتكرها لحماية محصوله من الأذى والخطر من فقدانه».

العم نجيب حسون
حمد العشعوش