عاش طفولته في قرية "المجمير" التي أحبها والتي جعلته يخزّن في رأسه أولى الابداعات الأدبية التي كتبها، ومازالت هي الأثيرة التي تمده بالعطاء حتى اليوم.

مدونة وطن eSyria التقت الأديب "وهيب سراي الدين" على هامش تكريمه في المركز الثقافي العربي في مدينة "شهبا" بتاريخ20/5/2013 فبدأ حديثه بالقول: «عشت طفولتي في قريتي "المجمير" في محافظة "السويداء"، مسقط رأسي هذه القرية العزيزة على قلبي، والتي أسميتها فيما كتبت "بمجيمرة" أي اسم تصغير محبب، فمنها استمديت خمائر التخزين والتكوين الإبداعية الأولية في الكتابة، فثمة السهول الواسعة الشاسعة والهضاب الفسيحة، والخرب الرومانية المعششة بالحكايات والآثار المنسية، وثمة أيضاً الفلاحون وحقول الزرع والحصاد، والطبيعة الخلابة في فصل الربيع فالأرض مروج خضراء يزينها بساط مزركش ببحيرات من شقائق النعمان، وزهر الأقحوان، كلها ازدهرت في نفسي، كما ازدهرت على الأرض، وسكنت في ضميري وخلدي ووعيي، بل مازالت تمدني بروائع معطياتها إلى الآن.

يعتبر الأديب "وهيب سراي الدين" من أوائل الأدباء الذين كتبوا الرواية في الجبل إن لم يكن أولهم، وقد كتب روايته الأولى في زمن العمالقة الكبار، وظل وفياً للأرض والمقاومة والتراث في كل أعماله التي كتبها في القصة والرواية، ما دفعنا لرد الوفاء له وتكريمه في المركز وهو اقل واجب اتجاه المبدعين الكبار

وعندما تمكنت من فك الحرف كما يقول أهل قريتي أولعت بمطالعة الأدب الشعبي السائد في قريتي، فأمدني هذا الأدب الفعال بسعة الخيال والشطح في حب البطولة والمغامرة، وكان في مقدمة كتب هذا الأدب الشعبي، كتاب التحمت به حدّ التماهي والذوبان، هو (سيرة بني هلال) هذا الكتاب كان له الأثر الكبير والدور الرئيس في توجهي نحو الرواية، فيما بعد».

الروائي مكرماً في ثقافي شهبا

وتابع: «ومازلت لهذا التاريخ أحن لقراءته حنيناً دافئاً صادقاً، ثم انتقلت بعد استكمال مراحل التعليم والتخرج الجامعي إلى مطالعة الأدب الفصيح العربي والمترجم، ورحت أطالع الروايات وأجنح مع مخايل الكتّاب وأحلامهم وعماراتهم الإبداعية، وتحت تأثير المخيلة الجموح تعزّز لدي التوق إلى كتابة الرواية أكثر فأكثر، ولكن لم أتعجل أمري. خشيت المغامرة والخوض في هذا العالم الصعب المستصعب، عالم الكتاب لذا عكفت مرة ثانية على المطالعة الجادة والشاملة، ولحسن حظي أنني تسلمت مديراً لأكثر من مركز ثقافي، في القطر، وهكذا ظللت على تواصل مستمر مع المكتبات والكتب، وعندما شعرت بأن عودي استقام تماماً عدت إلى عالم الكتابة، وتحت ضغط جرثومة الأدب هذه التي تلبسني بإلحاح. وظلت تنخر في دماغي، انكببت على الكتابة، ولكن على كتابة الرواية».

وعن هذه الرواية، والمجموعات القصصية التي كتبها قال: «جراء مطالعاتي اللاحقة فيما بعد لشوامخ الروائيين العالميين من مختلف الجنسيات أصبح لدي جدال مع نفسي ما بين القصة القصيرة وبين الرواية فأنا خلافاً للعادة المتبعة كتبت روايتين قبل أن أكتب قصة قصيرة واحدة ولكن حين أصبحت عضواً في اتحاد الكتّاب العرب كنت أشارك في الأمسيات القصصية والتعرف إلى الجمهور ومقابلته أدبياً على المنبر، الأمر الذي دفعني إلى كتابة القصة القصيرة، دون رغبة في بادئ الأمر بل بدافع المساهمة في الأمسيات الأدبية لأنني لا أستطيع قراءة رواية في أمسية واحدة، وهكذا صرت قاصاً بعد كتابة روايتين هما (قرية رمان) عام 1965، ورواية (حفنة تراب على نهر جغجغ)، وقد جهدت نفسي كطالب مجتهد يسهر الليل ويقيم النهار، في كتابة القصة القصيرة. وأراني عدت وأحببتها بل محضتها الكثير من قدرتي الإبداعية، وطاقتي التعبيرية، ووقفت على ناصية بيانها، وتمكنت من فكفكة أبجديتها بعد أن تمنعت عني بغنجها ودلالها، كملكة جمال. وجست تضاريس روابيها ورياضها، وغصت في مكفوفات أسرارها، حتى علقت بها تماماً ودرست ملكتها في ذهني، فدخلت مطبخي الخاص، واعتملت فيه، بمؤثرات مخيّلتي التيّاهة، لتسكب فيما بعد، على الورق ذوباً جمالياً خالصاً، مصدره من فيض الروح والمشاعر والأحاسيس، معجوناً بالتراب الطاهر، والعرق الناضح، من عضلات ضجّت بالتعب والعمل، لدى الإنسان. وها أجدني تحت تأثير ضغط تعبيري خلاّص، أترجم به عن مشاحنات ساخنة في الحياة ومحاجات ما بين الوعي واللاوعي، ما بين المجهول والمعلوم، ومن خلال تلك اللحظات اللماحة والبؤر الكشّافة أنفذ إلى عالمي الخاص، أو متصلي الكوني، كالشفرة الرهيفة، تثقب جدار الزمن وتسبر أعماق الوجود. نعم بعد هذا الترويض لعالمي القصصي كتبت عشر مجموعات قصصية وكنت مع من اختير في اليوم العالمي للقصة القصيرة بمناسبة أيام "أنطوان تشيخوف" في المركز الثقافي الروسي، كبطل للقصة القصيرة في سورية، عام 2008 إلى جانب ثلاث عشرة رواية».

الناقد حسين ورور

أما فيما يتعلق بكيفية الكتابة والتفاصيل الدقيقة لهذا العالم الغامض فقال: «في الكتابة عموماً لا أتسرع ولا أتعجل! أعرف سلفاً أن المشوار طويل، والكتابة مهمة شاقة، ولهذا لا أعرف قط خلال حياتي كلها في هذه المعاناة الأدبية ساعة فراغ، دوماً أبقى مشدوداً إلى هواجسي، مستنفراً لالتقاط الأفكار والصور، متحفزاً متوتراً، لاقتناص الطرائد الطارئة والوافدة، في اللحظات الخاطفة كصياد مترقب حذر، وذخيرة قلمي وبندقيتي من البارود دماغي وذهني. أبقى في وضعية الصياد هذه، أينما كنت، دوماً هي رفيقتي وظلي.

فمثلاً وأنا منخرط في العمل أو أجاري الفلاحين في قريتي، التي لم أنقطع عنها، إذ أعمل فيها فلاحاً مزارعاً، إضافة إلى الوظيفة، عرفت حقيقة كيف يتصبب العرق من الجبين، وتكل الزند من الجهد، وتضج العضلات من التعب. حرثت وحصدت زرع الحقول. ومع كل هذا أبقى وفياً لمشروعي الأدبي، أهجس في تخليق إبداعه، وأما في أوقات الراحة فأخلد للتأمل لإغناء ذلك التحليق، ثم أطالع الكتب المختصة النوعية حتى درجة الإشباع الكلي، الدرجة التي لا أستطيع بعدها القراءة البتة، فأعود إلى أوراقي وأبثها لواعج نفسي المضمخة بعبق الأرض وأريج السنابل، وهكذا أصبحت بحكم هذه البيئة كاتباً منتمياً للأرض، ومن يقرأ قصصي (الرجل والصخرة) و(نفاد الرمل) و(ثمة موت آخر) وغيرها ورواياتي(حفنة تراب على نهر جغجغ) وغيرها، يتأكد صدق هذا الانتماء».

وتابع: «أنا لا أستبق الأمور في الكتابة، بل أستمهلها وأدخر مكوناتها وأتركها في دنيا نفسي وعالمها، تنضج حتى تطرق الباب وأظل محمولاً بهواجس مشروعي مدة كتابته تلازمني كالتابع والمتبوع، ودائماً أعيش حالة استنفار إبداعي في الخلق والرصد والتفكير والتأمل وأقتنص اللمع وألتقط الصور والأخيلة، كلها أسميها في سجل ذاكرتي، كبدايات تمهيدية لعملي القادم، كعناصر أولية له، أمضي أياماً عدة بلياليها، وأنا أرسم مخططاتي الهندسية لبناء عمارتي الأدبية، وأقلب خرائط خواطري وأفكاري، وكأنني أتقلب على الجمر، إنها لحالات مخاض حقيقي في عملية ولادة إبداعية، وعند الكتابة يفيض كل ما تحصل لدي، فأسرده مدوناً بكتابة عادية في باديْ الأمر، وبلغة مختلطة ما بين الفصحى والعامية، فالمهم ألا تفلت من ذهني زرافات الأفكار والاستعارات والتشابيه والرموز. أكتب كأنني مأخوذ بحالة انخطاف فائقة الروعة والغرابة ولا أرتاح إلا بعد أن أنفث على الورق مشاعري، وما احتقنت به أعصابي وعواطفي، أمضي أياماً في كتابة القصة، وأفصل الرواية، حتى لا تنقطع شلالات خواطري، عندئذ تنزاح عن كاهلي، أكداس همومي التي تراكمت علي منذ زمن، فأتنفس الصعداء».

الشاعر والناقد الأدبي "حسين ورور" قال: «ينبثق الأديب "سراي الدين" من أقانيم واضحة ليصل إلى الناس، أهمها الصدق والتواضع والوفاء فهو يكتب عن أمر يحبه الناس ويريدونه، وقد يؤخذ عليه عدم قدرته على التعامل مع دراما الحدث إلا بناحية واحدة هي الوصف. والحقيقة أن الكاتب كلما اقترب من لغة الناس كلما وصل إلى قلوبهم وعقولهم وبالتالي اقترب في محليته إلى العالمية. وبرأيي أن لكل كاتب وروائي رواية مشهورة والباقي يدور في فلكها، فهو كتب "الرجل والزنزانة" أو "الرجل الذي ثقب الأرض" وهو الذي تناول فيها موضوعاً وطنياً مشبعاً بروح المقاومة لرجل جولاني في سجون الاحتلال الصهيوني عندما قام بثقب الأرض والخروج منها لرؤية أهله. ويحسب له أنه في كل أعماله كان مبشراً بانتصار الخير على الشر، والجمال على القبح، والعلم على الجهل».

الروائي "منير بو زين الدين" قال: «يعتبر الأديب "وهيب سراي الدين" من أوائل الأدباء الذين كتبوا الرواية في الجبل إن لم يكن أولهم، وقد كتب روايته الأولى في زمن العمالقة الكبار، وظل وفياً للأرض والمقاومة والتراث في كل أعماله التي كتبها في القصة والرواية، ما دفعنا لرد الوفاء له وتكريمه في المركز وهو اقل واجب اتجاه المبدعين الكبار».