كان عمره ثمانين يوماً عندما غادر والده الحياة، واكتشف يتمه عندما بلغ الثامنة عشرة، لم يكن يدور في خلد ذلك الطفل الصغير "سلمان" أن وراء البحبوحة التي يعيش فيها مع إخوته الثلاثة أم صابرة على الترمل المبكر، وماكينة خياطة جلبها والده الذي اغترب طويلاً، وكانت السبب الرئيسي في إكمال تعليمه، وتحقيق حلمه في الفن الذي كان يعد ظاهرة غريبة في مجتمع تلك الفترة.

والحديث مع الأستاذ "سلمان سليم البدعيش" الباحث في التراث والتاريخ، ومؤسس نادي الفنون الجميلة في ستينيات القرن الماضي يعيدك إلى الفترة الذهبية في الحياة السورية بعد الاستقلال، والثورة الكبيرة في كافة أنواع الفنون من رسم وموسيقا ومسرح، وتكاد تتعرف على الضفة الأخرى للإقليم الشمالي (مصر) من خلال ذكرياته العديدة مع الأشقاء الذين ملؤوا سماء "السويداء" علماً وطرباً أثناء الوحدة التي لم يكتب لها النجاح.

ولدت عام 1935 في مدينة "السويداء"، وعرفت اليتم دون أن أدري السبب إلا عندما بلغت الثامنة عشرة من العمر عندما اكتشفت أنني لا أعرف أي شيء عن العادات والتقاليد السائدة في الجبل، وهي الفترة التي دخلت فيها الحياة العملية كمدرس، كانت والدتي (رحمها الله) تطعمنا من عملها على ماكينة الخياطة التي جلبها والدي معه من الأرجنتين، (وهي الماكينة الثانية في كل المدينة)، وأذكر أنني كنت أعيش في بحبوحة مقارنة مع أترابي، وبفضل الوالدة أكملت دراستي مع أخي الكبير "مزيد" وكنا نعد من القلائل الذين نالوا حظهم في التعليم ضمن العائلة

يقول "البدعيش" عن طفولته التي بدأت حزينة: «ولدت عام 1935 في مدينة "السويداء"، وعرفت اليتم دون أن أدري السبب إلا عندما بلغت الثامنة عشرة من العمر عندما اكتشفت أنني لا أعرف أي شيء عن العادات والتقاليد السائدة في الجبل، وهي الفترة التي دخلت فيها الحياة العملية كمدرس، كانت والدتي (رحمها الله) تطعمنا من عملها على ماكينة الخياطة التي جلبها والدي معه من الأرجنتين، (وهي الماكينة الثانية في كل المدينة)، وأذكر أنني كنت أعيش في بحبوحة مقارنة مع أترابي، وبفضل الوالدة أكملت دراستي مع أخي الكبير "مزيد" وكنا نعد من القلائل الذين نالوا حظهم في التعليم ضمن العائلة».

سلمان البدعيش1951

دخل حب المسرح والموسيقا حياة الطالب "سلمان" عن طريق المصادفة في مدرسة التجهيز بمدينة "السويداء" في بداية الخمسينيات عندما أتى مدرس شاب من مدينة دمشق يدعى "محمد كامل القدسي" الذي تخرج في العام 1949 من معهد "فؤاد الأول" بالقاهرة، وكان من الذين ألفوا الكتب الموسيقية لدور المعلمين مضمناً إياها الكثير من الأناشيد والمقطوعات الموسيقية من تلحينه، وكان أول ما فعله تشكيل فرقة موسيقية من طلاب مدرسة التجهيز، يقول الأستاذ "سلمان" عن هذه المرحلة: «لقد طلب الأستاذ "القدسي" من إدارة المدرسة شراء بعض الآلات الموسيقية لتعليم الطلاب، وكان له ما أراد، حيث وزع ثماني آلات على عدد من الطلاب لتعليمهم وكنت من ضمن هؤلاء الثمانية، حيث كان نصيبي آلة الكمان، وبعد جهود مضنية من المدرس تشكلت أول فرقة موسيقية في المدرسة، وقدمنا في نهاية العام الدراسي بعض المقطوعات الموسيقية البسيطة، ولكن في العام التالي وصل عددنا إلى 28 عازفاً، حيث عنونت جريدة الجبل صدر غلافها بأكبر فرقة موسيقية بالوطن العربي، وفي السنة الثالثة قدم إلى السويداء المدرس الكبير والناقد الفني الأستاذ "صميم الشريف" الذي وسع بالفرقة مرة أخرى، وكنت قائدها بعد انتخابات بيننا لرئاستها، وهكذا تولدت لدي محبة الموسيقا والتأليف الموسيقي منذ الصغر، وكان أجمل يوم في حياتي عندما أخذنا آلاتنا معنا إلى البيت، حيث أذكر أنني وضعتها معي في السرير من فرحتي الكبرى لوجودها معي، وكان المسرح جزءاً من هذه الثورة التي بثها أساتذة محبون للفنون والإبداع، واستمرت إلى ما بعد الوحدة بين سورية ومصر، وأذكر أنني كنت أؤلف المسرحيات الناقدة وأقوم بالتمثيل مع أترابي حتى كان نادي الفنون الجميلة الذي له الفضل في تخريج دفعات كبيرة من الموهوبين في مختلف أشكال الفنون».

كان نادي الفنون الجميلة فكرة "سلمان البدعيش" بامتياز، وهو وعى باكراً قوة المواهب العديدة في المحافظة، وتركزت الفكرة على جمعهم ضمن مؤسسة واحدة متكاملة، وعلى الرغم من كل الظروف المادية الصعبة التي عانت منها فترة التأسيس، إلا أن المخاض العسير لانطلاقها قد أتى أكله، وعلى مدى عشر سنين كاملة كان هذا النادي مفرخة للمواهب في المسرح والموسيقا والرسم، يقول الأستاذ "سلمان" عن هذه الفترة الذهبية: «كان في أواخر الخمسينيات ناديان ناشطان هما "الفتيان" و"الجبل الرياضي"، وقد كانت فكرة إنشاء ناد فني مستقل تشغل بال الجميع، غير أن أستاذي "محمد كامل القدسي" أجج في نفسي العمل على الإسراع بإنشائه، فاتصلت بالأصدقاء والمعارف، واتصلنا بالشؤون الاجتماعية، ووضعنا نظاماً داخلياً وعقدنا مؤتمراً تأسيسياً في شهر كانون الثاني لعام 1959، وكان أول ظهور لنا على ساحة المحافظة من خلال الترحيب بالزيارة المرتقبة للزعيم الراحل "جمال عبد الناصر"، وقد تعاقب على رئاسة النادي أربعة رؤساء هم الكاتب والشاعر "سلامة عبيد" والدكتور "فؤاد حمزة" والأستاذ "مفيد أبو حمدان" عضو مجلس الشعب الحالي، وآخرهم استلمت رئاسة النادي لمدة ست سنوات كاملة حتى أقفل النادي، وكان فرع الموسيقا نشيطاً الذي أشرف عليه الفنان "فؤاد دويعر" وخرج العديد من المواهب الكبيرة، وأقام العديد من الحفلات الضخمة، وفرع التمثيل الذي قدم العديد من المسرحيات مثل مسرحية بطل من الجزائر، ومحكمة الضمير، والجزاء، والنساجون وغيرها، وفرع الفنون التشكيلية الذي قدم عدداً من الفنانين الذين ذاعت شهرتهم على مستوى الوطن العربي والعالم مثل الفنان "فؤاد أبو سعدى" والفنان "جمال العباس"، ومثله كان الفرع الأدبي، وكان فرع الرحلات والهوايات المختلفة من أنشط الفروع في النادي، وكانت قمة هذه النشاطات زيارة مدينة "القدس" والأردن الشقيق، والعراق الذي احتفل بوجودنا بشكل لا يمكن أن ينسى، وكان النادي من أنشط نوادي القطر بدليل المساعدات الكبيرة التي كنا نتلقاها من وزارة الثقافة، وقد توقف النادي عن النشاط في العام 1970، حيث طويت صفحة مشرقة من تاريخ المحافظة الفني».

سلمان البدعيش يوم عيد الأضحى20ـ8ـ1953 يعزف على آلته

يتمتع الأستاذ "البدعيش" بعدد من المواهب مثل جمع الطوابع والعملات النقدية النادرة، وكل ما يتعلق بالتراث، والكتابة في التوثيق، يقول عنه الفنان والمخرج المسرحي "تيسير العباس": «أول ما ابتدأ الفنان الأستاذ "سلمان" بجمع الطوابع البريدية، وكان ذلك في المرحلة الإعدادية من حياته الدراسية، واستمرت هذه الهواية إلى ما قبل 20 سنة حيث لم يعد لديه وقت لهذه الهواية المكلفة، وقد استطاع أن يحصل بالشراء أو المبادلة أو الاقتلاع عن المغلفات على مجموعة تضم آلاف الطوابع لأكثر دول العالم، ولديه مجموعة من الطوابع النادرة ذات قيمة مادية كبيرة.

والهواية الثانية التي مارسها تمثلت في جمع العملة القديمة، حيث كان منذ الصغر يسعى لامتلاك القطع النقدية القديمة بصورة، مجانية أو بالثمن، وقد كان خلال وجوده خارج سورية (إن كان للعمل أو السياحة) يشتري القطع النقدية، ولقد حصل على مجموعة هامة من زياراته للأسواق القديمة التي تبيع مثل هذه المقتنيات في دول الخليج ودول المغرب العربي وبعض الدول الأوروبية، واشترى منها ما يجده ويستطيع تحمل ثمنه، حتى أصبح لديه مجموعة هامة من النقود، فالعملة السورية امتلك كل قطع إصداراتها من نصف القرش إلى القرش إلى القرشين ونصف إلى الفرنك والفرنكين وربع ونصف الليرة وبعضها صك من النحاس والبعض من الفضة وكذلك حصل على فئات العملة اللبنانية والعثمانية والعملة الأموية والعباسية والرومانية والبيزنطية والرومانية، حتى أصبح يمتلك مجموعة هامة ذات قيمة مادية تقدر بمئات الآلاف من الليرات السورية، قبل أن يتوقف عن متابعة هذه الهواية قبل حوالي ثمانية عشر عاماً عند عودته من الاغتراب وانهماكه بالتجارة التي تقتل المواهب وتعرقل ولادات الإبداع وتحول الإنسان إلى حاسوب لإحصاء الأرباح والخسائر، ولأنه لم يستطع المتابعة باع المحل التجاري وبدأ في البحث عن الذات من جديد من خلال تأليف الكتب التي توثق للمراحل التي عاش تفاصيلها، وقد أصدر كتابه الأول الذي يتحدث عن الحياة الفنية (الموسيقا والمسرح) منذ العام 1700 إلى العام 1970، ويعكف الآن على كتابة بحث موثق عن كل ما يتعلق بالعادات والتقاليد والحصاد والأدوات التي استعملها الإنسان في الجبل لهذه الغاية، وهي فرصة مناسبة للقول إن الأستاذ "سلمان" له الفضل الكبير في تربية المواهب الفنية من كل الاتجاهات على ساحة المحافظة».

0286سلمان البدعيش في معرض الرسم والأشغال لثانويات السويداء ـ1956

وهو يدخل سن الخامسة والسبعين من العمر، ما زال ذلك الشاب الذي وصل مشياً على الأقدام إلى قرية تدعى "طللين" في أول الخمسينيات أثناء عاصفة ثلجية ليعلم الأولاد مبادئ القراءة والكتابة، ويكتشف بعد أن بقي سنة كاملة هناك أنه كان يتيماً لا يعرف التعامل مع عادات المضافات وتقاليدها، ومن يومها إلى هذا الوقت يبحث في كل صغيرة وكبيرة عما يمكن أن يحفظه للأجيال القادمة.