كثيرة هي الأسماء التي يطلقونها عليه، وكلما اقتربت من عالمه الصغير (بنظره)، الكبير بعيون محبيه، تكتشف دون أن تدري أنك أمام قامة جميلة لا تستطيع نسيانها بسهولة، من اللغة التي تسحرك بسلاستها المتناهية، إلى التعليقات اللاذعة التي يخشاها الجميع، والصوت الشجي القادم من عالم طفولي لم يستطع حتى الآن الفكاك منه. وعلى الرغم من سكناه في المدينة لما يزيد على ربع قرن، إلا أن "الغارية" ما زالت تسكنه .

"موفق نادر" الشاعر والروائي والقاص والناقد، المولود عام 1956 في قرية "الغارية" الواقعة في أقصى الجنوب السوري، والمحاذية للحدود الأردنية، قال لموقع eSuweda يوم السبت الواقع في 15/8/2009 عن تأثير الحياة التي عاشها في قريته عليه: «لا يوجد طفل في ريفنا البائس عاش حياة طبيعية، فقسوة العيش، والفقر الشديد يدفعان طفلاً لا يتجاوز عمره ثماني سنوات للعمل بالأشغال الشاقة، حيث كانت مواسم الحصاد مواسم صاعقة، على الرغم من كل الأشعار التي تغنى بها الشعراء دون أن تلفح جبينهم الشمس الحارقة، ولا عرفوا يوماً قسوة الأشواك البرية التي تنام في الأيدي زمناً قبل أن تخرج، وكانت البيادر تمتلئ بالغلال بفضل اليد العاملة فقط، فلا حاصدات ولا درّاسات ولا حتى جرارات للنقل. وكنت واحداً من هؤلاء العمال، وأذكر كيف كنت أفرُ من أهلي ليتاح لي القراءة في المدرسة، والنظرة السائدة آنذاك حين يجدك الأهل تقرأ هي أنك شخص خامل ومتهم. وكان الكتاب أشهى مكان نهرع إليه للهروب من كل هذا التعب، وعشت ولا أنسى صاحب دكان صغيرة كان يعرض كتباً صغيرة ثمنها عشرة قروش، تتحدث عن "الزير سالم" و"عياض الهلالي"، ولا شيء في "السويداء" يغريني عندما آتي إليها سوى الولوج إلى تلك الدكان التي علقت كتبها على قلتها بملاقط غسيل».

إن عالم الطفولة عالم ساحر وبريء، وأي شيء يؤثر فيه، وطفولة تلك الأيام التي عشناها لا تشبه هذه الأيام بأي شكل من الأشكال، وأطفال هذا الزمن يولدون فلاسفة، ويمكن أن يملوا إرادتهم على الكبار وأن يعلموهم أيضاً، فما معنى أن يجلس طفل في حضن جده ويعلمه على الكمبيوتر مثلاً؟ فالأشياء بدت مقلوبة، وهو نزق ولا يمكن أن يتصور كيف أني لا أتمثل لهذه الحالة

يقال إن الطفل "موفق" قد أتقن القراءة قبل أن يدخل المدرسة، وهي تهمة لا يعترف بها، ويقول: «أنا واثق أنني تعلمت ذلك عندما دخلت المدرسة، وقد عشت تجربة قد تكون غريبة بعض الشيء عندما كنت أقرأ للأقارب سيرة بني هلال، وأشعر بنشوة وزهو لا حدود لهما حينما أقول: "وأنشأ يقول، وعمر السامعين يطول"، فيهتفون بصوت واحد يطول عمرك، وكنت حكواتي على الرغم من انفي، اقرأ تلك الكتب الضخمة التي لا استطيع حملها لأقرأ، وأتذكر كيف كنت ألون طبقات صوتي حسب المشهد المرسوم أمامي، حتى أصبحت هذه الليالي إدماناً على القراءة، ومن هنا كانت كتاباتي موصوفة بالقراءة، وتلك الليالي شحذت مخيلتي كثيراً».

مكرماً في مهرجان المزرعة

كتب "نادر" العديد من الأشعار للأطفال، ويقول: «إن عالم الطفولة عالم ساحر وبريء، وأي شيء يؤثر فيه، وطفولة تلك الأيام التي عشناها لا تشبه هذه الأيام بأي شكل من الأشكال، وأطفال هذا الزمن يولدون فلاسفة، ويمكن أن يملوا إرادتهم على الكبار وأن يعلموهم أيضاً، فما معنى أن يجلس طفل في حضن جده ويعلمه على الكمبيوتر مثلاً؟ فالأشياء بدت مقلوبة، وهو نزق ولا يمكن أن يتصور كيف أني لا أتمثل لهذه الحالة».

تعلم الشاعر "نادر" في مدارس "السويداء"، ودخل قسم اللغة العربية عن سبق إصرار وترصد، وعانى الأمرين قبل أن يتخرج بسبب الوضع المادي الذي دفعه لممارسة هوايات عدة في الأعمال الشاقة طوال فترة الدراسة، وكان معدله عالياً جداً، غير أنه آثر السفر بعقد عمل إلى الخليج بعد خدمة العلم، ولم يكن يدري ما ينتظره هناك من مهالك كادت تقضي عليه، فهو عاش مدة سنة كاملة بين القرود، وسوف يفاجئ القارئ بروايته الجديدة عن تفاصيل تلك الرحلة.

الطفولة هي عالمه

وبعد عودته التحق بركب التعليم وبقي عشرين عاماً يدرس اللغة العربية للشهادة الثانوية في مدرسة الشهيد "كمال عبيد"، حتى اختارته مديرية التربية موجهاً اختصاصياً، وما زال يحاول العودة للمهنة التي يحب.

وعن الكتب التي أصدرها حتى الآن يقول: «لقد بدأت كاتباً للأطفال، وأنا فخورٌ بذلك، وكانت وسيلتي الوحيدة للنشر هي البريد، حيث كنت أرسل نصوصي إما عن طريق الأصدقاء أو البريد، وكان هدفي ولا يزال عدم التمحس بذوي الشأن من أجل النشر، وأرفض الثقافة القائمة على الشللية، ولذلك قبلت لي أول مجموعة شعرية من قبل وزارة الثقافة، وبتزكية وإطراء شديد اللهجة من قبل الأستاذ "سليمان العيسى"، وهي بعنوان "الغيمة تمرح" عام 1984، وبعده صدرت مجموعتان شعريتان من سلسلة كتاب "أسامة الشاخري"، واحدة تدعى "نائل يلتقي أباه"، والثانية بعنوان "أنشودة المطر"، وبعد ذلك انقطعت فترة طويلة عن النشر، وتابعت الكتابة، وبعد أن انتسبت لاتحاد الكتاب العرب في العام 1997 نشرت مجموعة قصصية تحمل عنوان "حكاية المهر دحنون"، وهي فائزة بجائزة الشهيد "ماجد أبو شرار"، وتحمل الطابع الفلسطيني، ووصلت إلى حدود أن تمثل في دولة الإمارات، فالرسوم كانت جاهزة، وكتبت السيناريو المخصص للعمل، غير أن خلافاً وقع بين الشركاء أجّل العمل إلى وقت لاحق، وبعد ذلك أصدرت مجموعة قصصية بعنوان "لعبة النهر"، ومجموعة شعرية للأطفال بعنوان "أغنيات بطعم الليمون"، وقبلها مجموعة شعرية بعنوان "عصفور الثلج" إلى أن نشرت مجموعة من الشعر المنثور تحمل عنوان "مشاغبات صغيرة"، و"طيور الكلام"، و"حروف مشبهة"، و"بين القلب وما يخفى"، ورواية "صعود" عن اتحاد الكتاب العرب وهي فائزة بجائزة "المزرعة"، والآن قيد الصدور رواية بعنوان "تحت سماء صافية"».

على الرغم من شعوره الدائم بالملل، وعدم الاهتمام بما كتب عنه، وعدم اهتمامه بما نشر عنه، يبقى الحديث مع الكاتب الشاعر "موفق نادر" حديثاً فيه الكثير من الحنين والفائدة والمتعة، فهو يبقى الرجل الذي تتمنى أن تراه في كل وقت.