بعد انتكاسة الثورة السورية الكبرى وعودة الاحتلال، أقام الفرنسيون مقبرة جماعية للقوة التي أبيدت في الكفر، وصار حاكم الجبل الجنرال كليمان غرانكور يصطحب زوجته وأركان حاكميته كل نهار احد إلى الكفر لزيارة المقبرة اياها ويحرص ان يعطي موكبه الدوري هذا مظهر عرض العضلات والترهيب للأهالي.

في احد أيام الآحاد تلك فوجئ الموكب لدى وصوله الأرض التي دارت فوقها المعركة بمشهد وقفوا حياله مذهولين: مجموعة كبيرة من الأطفال الصغار انقسموا إلى فريقين واقتطعوا من أشجار الحرج عيدانا عالجوها فصارت تشبه البنادق والسيوف والخناجر والحراب كل واحد منهم اختار سلاحه، وكل فريق يمثل الجمال والحيوية ويثير ضحكة من هم اكبر منه سنا.

كانت زوجة الجنرال عاقرا لا تنجب الأولاد فأذهلها المنظر ووجدت الطفل الجدير أن تتخذه ابنا لها.

وأخبرت زوجها بما دار في خلدها، فقام الجنرال باستدعاء ذلك الفتى وسأله عن اسمه فأجابه فايز فارس حذيفة.

وقال الجنرال أين والدك؟ فأجاب بغضب: قتلتموه هنا... انتم!

فسأله الجنرال عن أهله وإخوته وطلب عند حضورهم أن يتبنى فايز وينقله إلى فرنسا لتعليمه وتربيته هناك.

فاعترض الأهل كثيرا على الأمر، فهو ابن شهيد الكفر فارس حذيفة المدفون في هذه الأرض، وهو يعلم جيدا من قتل والده والذاكرة لا تموت حتى لو حاولتم غسلها وهذا سيولد في رأسه الثأر في المستقبل (هكذا كانت ردود أهل الطفل فايز).

لكن الجنرال أمر وأمره نافذ، وقال لهم: إن فرنسا سائرة في طريق بناء علاقات صداقة مع السوريين وسوف يكون فايز من أبناء جيل هذه الصداقة.

وهكذا كان فذهب فايز إلى فرنسا محاطا بأعلى درجات العناية والرعاية وبدأ مرحلة الدراسة فكان من المتفوقين حتى تخرج في مدرسة سان سير برتبة ضابط ملازم ثان وأعيد إلى سورية أخذ مكانه في جيش الشرق الفرنسي ومركزه حمص.

كان الضابط فايز محبا للمطالعة فدرس تاريخ فرنسا وثورتها والتراث العربي وواقعه وتعرف بطريق المصادفة بفتاة مسيحية كان أهلها من أبطال الثورة السورية فالتقت أفكارهما وقررا الزواج متجاوزين الفوارق المذهبية وأنجبا بنتا سمياها منى وقررا العودة إلى الكفر والتعرف على الأهل وذويه بعد غيبة 12 عاما. وما إن رأى الضابط فايز أهله واستعاد ذكريات الطفولة ولمس ما يعانيه أهله من سياسة القمع والاضطهاد والتجويع حتى انقلب إلى عدو صلب الرأس لفرنسا بدءا من والديه بالتبني وراح يتعلم العربية ويقرأ كل ما كتب عن الثورة ويلتهم الكتب اختصارا للزمن ويتابع أحداث الثورة في فلسطين عام 1936.

وبدأت محاولة إخضاع فايز بعد ان عرفوا وجهته وتفكيره لإمرة ضابط أحلاف، او نفيه إلى تدمر منفى تلك الحقبة، وتأليب أهله عليه من خلال الشائعات المتلاحقة ضده وعزله عن وسطه الاجتماعي.

واتفق مع زوجته على الافتراق حتى لا يشكل لقاءهما خطرا، وكانت من أصعب لحظات حياته وبدأ مرحلة النضال مع الوطنيين السوريين من اجل استقلال سورية وعينه وقلبه على فلسطين التي بدأت طواغيت العصر بالزحف إليها وامتهانها، وما إن استقلت سورية حتى بدأ التفكير ينصب نحو القدس وعندما دقت الساعة كان فايز حذيفة اول من تطوع لنصرتها مع الوطنيين الأحرار الذين تخلوا عن كل المناصب والمراكز من اجل العزة والكرامة.

كان وداع فايز فارس حذيفة عند استشهاده أشبه بعرس وطني لرجل أفنى عمره من اجل استقلال سورية ونصرة فلسطين.

وكان ومازال مضرب المثل في التخلي عن الرفاهية والمناصب والمال من اجل الثأر لدماء الشهداء وعزة الوطن.