يتأثر الفنان التشكيلي في كثيرٍ من اللوحات الفنية الطبيعية الموجودة أمامه والمتواجدة أصلاً مع وجود الطبيعة إلا أنه أكثر ما يتأثر حين يجد نفسه أمام إبداع من نوعٍ مختلف يتكرر المرة تلو المرة وبشكلٍ يومي.

كأن يشاهد امرأة تصنع الخبز لتطعم الأهل وتساهم في استمرارية الحياة مع قانون الوجود الوضعي للحياة، لأن الخبز وجد مع الطبيعة وهو تعبير عن الكلمة الصادقة وسبب المعجزة الكونية حين أطعم السيد المسيح عليه السلام إخوته من الخليقة والمقدرة بالأعداد بثلاثة أرغفة من الخبز لتكون المعجزة النبوية فيه، وكذلك حين قال المسيح الحق عليه السلام: /ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بالكلمة الطيبة/ وما أجمل الكلمة الطيبة والفعل الصادق حين يكون من رمز العطاء الدائم في عالم الوجود المتجسد في الحنان الأزلي والأم الرؤوم، فإذا ما أردنا أن نقول عن الأم فإني أوجز بأنها سبب الوجود والبقاء والحياة، وهنا تكمن عظمة الإبداع أيضاً أن يتكون من فكر وثقافة محلية وعادات اجتماعية لوحة فنية تجسد الظروف اليومية للحياة الريفية من خلال عملٍ تقليدي يومي إلى عملٍ فني رمزي يمثل الكثير من المعاني والأفكار.

إن الفنانين العالميين حين بدؤوا يغزون العالم بفنهم ويأسرون القلوب بإبداعهم كان هاجسهم الوحيد هو نقل معالم البيئة المحلية لديهم إلى العالم أجمع لذا كانت نقطة الانطلاق والبداية والوصول إلى النجومية لكثير من العمالقة في هذا الفن عن طريق بيئتهم المحلية، ومن لا ينطلق من بيته المحلية أعتقد أنه مجازف بفنه قليلاً، لذا فإن الكثير من الفنانين الانطباعيين قد انطلقوا من ماء قريتهم وملحها ورغيف خبز أمهم العجوز التي تلوّح بيدها به يومياً لتقري الضيوف والأكارم من القادمين إلى مضافة زوجها حين يتصاعد دخان المضافة الحامل رائحة البن والهيل والذي تشتمه مع نسائم رطبة عليلة تجتاح القرية الممشوقة في تلّتي العز والفخار منبهاً للترحيب بالضيوف، ولا بد لجيل من الشباب المعاصرين لتلك الفترة الزمنية الراشفين عبق تلك العادات، اللاعبين بتراب الحب والراقصين على أنغام أهزوجة الأم التي تخبز، وحداء الأب الذي يعدل قهوته يومياً أن تكون لديهم ذاكرة غنية بمخزون ثقافي اجتماعي يحمل القيم والمثل والأعراف العربية، طابعين في المخيلة المعاناة والفرح مؤنسنين تلك المعالم لتبقى ولوجاً في عاطفتهم وذاكرتهم الوطنية.

الفنان عامر الخطيب مع مراسلنا

وهذا ما شعرت به حين رأيت لوحة فنية لأم تخبز في منزل الفنان التشكيلي الموهوب عامر الخطيب وتجرأت لسؤاله عن تلك اللوحة الجميلة، أعلمني أن لوحته قد أطلق عليها أسم / صانعة الخبز/ والذي قال فيها عميد كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق الأستاذ الدكتور عبد الكريم فرج: (هذه اللوحة ترسم لوحة صانعة الخبز سكوناً في اخضرار مجفف تشوبه حرارة دفينة في حمرة ممزوجة وندية ينقشع وجه من أعماق دخانها الرمادي فوق التنور، وجه كالرغيف، ويتبدى رغيف مشبوب بحرارة اللون الأصفر والبني المضيء هو الآخر كوجه الإنسان مشوق وأنيس، تأليف شامل تزيد من رسوخه امرأة تربعت فبي أثوابها العاتمة بثقل لا يخفي نواياه التعبيرية).

وهو (الفنان التشكيلي عامر الخطيب) القائل عنها: سميت اللوحة التي تسجل تفاصيل إنتاجها للرغيف العربي بـ ( صانعة الخبز) لكثرة ما كانت علاقتها حميمة ودائمة مع الملح والماء والطحين ولكثرة ما كانت تلوح بأطباق العجين وتعتني برغيف الخبز.

الفنان أمام إحدى لوحاته

لعله وفي ذكرى عيد الأم نستطيع مراجعة وقراءة مفردات وعبارات هذه اللوحة من خلال الطقوس التي كانت تعيشها وتمارسها والدة صاحب العمل موضوع هذه اللوحة وهي الأم لأكثر من عشرة أفراد.

لقد كانت هذه المرأة العتيقة الفاضلة تعامل حبات القمح بإجلال وإعجاب وقدسية، فترسل التسميات البريئة الممزوجة بمرارة وحلاوة ومتعة الأمل المتأرجح على أهداب أفقها الطموح باعثة من تحت رماد الجوع مفاهيم الحياة السامية المقدسة لحبة القمح "حبة البركة" لأن هذه الحبة إذا ما تواجدت في "كواير" عائلات الفقراء والفلاحين وبيوتهم فإنما تواجد الخير والغذاء والخبز والبركة ومادة الضيافة الأولى.

"وحبة البر" إعجاباً وتغنيجاً لساترة البيت وطاردة العوز.

وبحرص صائغ النوادر الثمينة تلملم أنامل واكف صانعة الخبز ذرات الطحين وتغزل فوق تموضعها ابتهالات العاشق الصوفي بدفء أنفاسها الطاهرة ناثرة ملح الأرض وروح الحياة بمائها الممزوج بآيات الترتيل الحكيم ضمن "دست" النحاس المخصص لجمع مفردات الفعل والقول من تجميل وجه العجين برموز موروثة مقدسة لتعلم صاحب العمل مبادئ الرسم الأولى.

لقد كان الإحساس المرهف البسيط بمواعيد اختمار العيش ونضجه دقيقاً إلى حد الدقة مع طلوع الفجر ومسابقة خيوط النور لتتربع كل الأرغفة المنهمرة على صاج الموقد فوق طبق قش القمح المفتول والمصنوع بأناملها الرائعة البديعة مع قبلة الشمس الأولى لما نتأ من أحجار الدار فاق مستوى السطح.

لقد رحلت صانعة الخبز مع عشرات الأطنان من القمح وأكيال الملح وأكداس الخبز العربي المقمر، رحلت عاشقة القمح والماء والآيات والضوء النقي ابنة العكوب والدردار والعنب وابنة اللوز و البازلت والجبل المضمخ بروائح عطر الأحمر القاني المعتق، ابنة شعف الجاثمة على حافة البادية السورية قبالة عنفوان شعاف جبل العرب.

لقد رحلت صاحبة الوجه البشوش بليغة الصمت والقول تاركة معنى إعجابها بالوجه الضحوك في ترديدها "يضحك مثل رغيف السخن" عبارة نرددها مع توقنا لإدراك قيمة المعاني وفلسفة الذات البسيطة التي لا تكتب وليست سهلة القراءة لسلوكيات صانعة الخبز المتماهية مع الحياة والإنسان والطبيعة والذكر الحكيم.

أخيراً يمكن القول إن الفن التشكيلي هو رسالة إنسانية ثقافية اجتماعية يساهم مساهمة حقيقة في إظهار الجوانب الأخلاقية للمجتمع ويستشرف تنمية المجتمع من خلال رسائل ذات أبعاد مكانية وزمانية لتاريخ وحضارة الأمم والشعوب.