اختار الفنّ ملاذاً آمناً، وبحث فيه عن خبايا الروح بذاتية ومهارة خاصة، قادته إلى الأيقونة كفنّ روحاني عميق الأثر، رسم للفنان "نزار مليح" مساراً جديداً؛ خطوته القادمة العشاء الأخير بروح الواقعية.

لم تتوافر له فرصة الالتحاق بكلية الفنون أو معهد فني متخصص، وكانت فرصته الوحيدة الاعتماد على الذات، فالفنّ لم يخبُ، ولم تغبْ الموهبة، وكان بانتظار ظهور أعمال من البيئة المحلية تطورت إلى فنّ الأيقونة الذي ارتبط به؛ كما تحدث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 10 كانون الثاني 2017، وقال: «أنحدر من عائلة فقيرة مؤلفة من عشرة أشخاص، أنا أكبرهم سنّاً، وضيق العيش جعلني أقف عند الشهادة الثانوية والسفر للبحث عن فرصة حياة، وبالنسبة لي تعدّ موهبة الرسم هبة سماوية تولد مع الإنسان، وكسائر المهتمين والرسامين اجتهدت كثيراً لصقل موهبتي حتى وصلت بها إلى ما أنا عليه اليوم. اتّسمت أعمالي بالأسلوب الواقعي، واعتمدت فيها بساطة وسهولة تمرير الفكرة لكي تصل إلى الجميع.

ظهرت ملامح موهبة "نزار" بوضوح، وكان لجهوده الذاتية أثر في تطويرها، وقد كان عمله الأول على مستوى الأيقونة منذ أكثر من عشرين عاماً عندما كلّفته بتجسيد صورة "المصلوب"، وشعرت بارتياحه لهذا العمل الذي يقدّمه إلى الكنيسة بروح العطاء والمحبة، وهنا كانت البداية؛ فالأيقونة خطّ روحي فني خاص، وهي معلومة ونصّ كتابي مصور؛ لذلك من المفترض أن تعطي التعابير اللاهوتية والروحانية والجسمانية الأرقى والمؤثرة في النفس البشرية، لتكون معبرة عن الأشخاص من دون الناحية الجسمانية. وكانت خطوات "نزار" على هذا الطريق واضحة، وقد تشاركنا الحديث لتكون لديه معرفة أوسع بهذه القصص ومعانيها؛ فهنا للقداسة حضور؛ وهذه الأيقونة توضع بالكنائس وتدهن بمادة "الميرون"، والمؤمنون يصلّون بجوارها بحالة الخشوع، وعليه فشروط إتقانها تبدأ من الحالة الروحية للفنان والتماهي مع القصة ومعانيها

لكن عند انتهاء مشروع الاغتراب والاستقرار في بلدتي "القريا"، تابعت الرسم وهيّأت الظروف للاستمرار، وكنت قريباً من المجتمع، وتأثرت بحضور الكنيسة، وكانت لي لقاءات مباشرة مع فنّ الأيقونة كحالة فيها محاولة للفهم والاستمتاع بتجسيده، وعندما توفرت لي الظروف المادية بدأت العمل على تطوير وصقل موهبتي، خصوصاً أنني التقيت كبار الفنانين من "كوريا"، و"روسيا"، و"إيران"، وكان لهم ولأعمالهم الفنية الدور الكبير في عشقي للرسم».

نزار مليح مع الأب بديع الرمحين

الأيقونة حالة وجدانية روحانية يجسّدها بمحبة، وقد تعلّق بها بعد مصادفة أثرت به، حيث يقول: «منذ عدة سنوات طلب مني الأب "عبدالله شحيد" راعي كنيسة "القريا" أن أرمّم مجسّم للسيدة "العذراء" بعد تعرض جزء من الكنيسة إلى حريق، وبعد معاينة المكان والمجسّم تبيّن لي أنه مصنوع من "الفيبركلاس"؛ وهو مادة بلاستيكية، ومع هذا لم يتعرض المجسم إلى أي ضرر، وهنا بدا لي أن هناك إعجازاً؛ فالمجسّم من البلاستيك ولم يحترق.

والأيقونة بالنسبة لي حالة وجدانية وروحانية أعيشها بمشاعري قبل أن أجسّدها على شكل لوحة لتوازي عظمة المضمون مع إخراج اللوحة، وتجسيدها بالشكل واللون، فهي حتماً تحتاج من الرسام الكثير من الجهد والخبرة، إضافة إلى دقة متناهية في العمل. وفنّ الأيقونة عريق وقديم ازدهر في أواسط القرن الرابع عشر، حيث تزينت به جدران الكنائس والمخطوطات، وقد ساعد هذا الفن على نشر تعاليم وآداب المسيحية بأسلوب راقٍ، ولأننا اليوم بأمس الحاجة إلى التسامح ونشر ثقافة المحبة والسلام؛ قرّرت أن أخوض في تجربة الرسم البيزنطي (الأيقونة) وأقدّمها إلى الكنائس كنوع من ردّ الجميل لأعمالهم الإنسانية للمواطنين بمختلف انتماءاتهم».

من أعماله وأقربها إلى قلب نزار مليح

وعن قصة الأيقونة الأقرب إلى روحه، قال: «حالة التجسيد للأيقونة مرحلة جميلة، لكنها شاقة، وكنت بمساعدة الأب "بديع الرمحين" راعي كنيسة "عرى"، وسعة اطلاعه أستفيد من قصص روحية حفرت في ذاكرتي للأيقونات التي أجسّدها، وكنت كلما أنهيت رسم أيقونة وسلّمتها للكنيسة في قرية "عرى"، أشعر بأنهم يأخذون مني أحد أبنائي؛ لأن لكل أيقونة قصة أعيشها بإحساسي قبل أن أجسّدها على اللوحة، ومن بين تلك اللوحات كانت لوحة "قلب يسوع" التي استهلكت مني الوقت والجهد الكبير، فقد كنت أشعر بمتعة رائعة وأنا أخوض تفاصيلها، فلا أشعر بالتعب مهما طال الوقت، إضافة إلى أيقونة الملكة "هيلانا" والدة الملك "قسطنطين" التي يجتمع بها الجمال مع الإيمان؛ فتغدو اللوحة في أرقى حالات الخشوع، ربما لا أستطيع أن أصف مشاعري بدقة، لكن أستطيع أن أقول إن لها في قلبي الأثر الكبير، وخصوصاً أن صديقي الأب "بديع الرمحين" كان يجلس إلى جانبي ويحدثني.

مشروعي القادم أن أنفّذ أيقونة العشاء الأخير، لكن لن تكون بالأسلوب البيزنطي، بل بالواقعي، إلى جانب التحضير لمعرضي القادم بعنوان: "رجالات من بلادي" أسلّط فيه الضوء على شخصيات قدّمت وضحّت من أجل هذا الوطن، ليكون الرسم إضافة إلى التصوير الفوتوغرافي والخطّ العربي».

ومن أعماله أيضا

حوار روحي على وقع ضربات الريشة وصفه الأب "بديع الرمحين" بالعميق نسبة إلى أثر الأيقونة في نفوس المؤمنين، وقال: «ظهرت ملامح موهبة "نزار" بوضوح، وكان لجهوده الذاتية أثر في تطويرها، وقد كان عمله الأول على مستوى الأيقونة منذ أكثر من عشرين عاماً عندما كلّفته بتجسيد صورة "المصلوب"، وشعرت بارتياحه لهذا العمل الذي يقدّمه إلى الكنيسة بروح العطاء والمحبة، وهنا كانت البداية؛ فالأيقونة خطّ روحي فني خاص، وهي معلومة ونصّ كتابي مصور؛ لذلك من المفترض أن تعطي التعابير اللاهوتية والروحانية والجسمانية الأرقى والمؤثرة في النفس البشرية، لتكون معبرة عن الأشخاص من دون الناحية الجسمانية. وكانت خطوات "نزار" على هذا الطريق واضحة، وقد تشاركنا الحديث لتكون لديه معرفة أوسع بهذه القصص ومعانيها؛ فهنا للقداسة حضور؛ وهذه الأيقونة توضع بالكنائس وتدهن بمادة "الميرون"، والمؤمنون يصلّون بجوارها بحالة الخشوع، وعليه فشروط إتقانها تبدأ من الحالة الروحية للفنان والتماهي مع القصة ومعانيها».

ما يجدر ذكره، أنّ "نزار مليح" من مواليد "القريا" حصل على جائزة خاصة من جامعة الشيخ "زايد" في دولة "الإمارات". وهي درع مقدّم من مركز الطلاب المتفوقين، حيث شاركت بمعرض ذهب ريعه إلى أهلنا في "فلسطين"، وباقي الجوائز كانت عينية لعدة مشاركات في معارض وأعمال قدّمت لدار "زايد" لرعاية المعوقين.