تقع مدينة "الفار"، أو ما يعرف قديماً بحصن "مسلمة بن عبد الملك" شمال مدينة "الرقة" بنحو /75/كم، وتتوضع على الكتف الأيسر من وادي نهر "البليخ".

وللحديث عن هذا الموقع الأثري الهام في محافظة "الرقة"، التقينا الباحث الأثري "محمد العزو" الذي تحدث عنه قائلاً: «هناك اليوم العديد من المدن التي تحمل اسم مدينة "الفار"، قرب مدينة "معرة النعمان"، و"مسكنة". وعلى ما يبدو أن العباسيين هم الذين أطلقوا عليها اسم مدينة "الفار"، والهدف منه تشويه سمعة العائلة الأموية، والنيل من رجالاتها، ومنهم الأمير "مسلمة بن عبد الملك"، الذي ترك بعض مواقعه للبيزنطيين، فدعيت هذه المواقع "الفار".

استأنفت البعثة الوطنية السورية أعمالها في الموقع المذكور، وهذا موسمها الثالث في الموقع، حيث كشفت في الموسم السابق عن بناء يعود لقصر الإمارة الخاص بحصن "مسلمة بن عبد الملك"، والعديد من الغرف لسكن الأعيان، ووجود خزانات مياه، والبوابة الشرقية، ومكتشفات أثرية سلمت لأمانة المتحف الوطني في "الرقة" أصولاً

تتكون مدينة "الفار" من مجموعة من الخرائب والأطلال المتهالكة، وبلغ طول المدينة من الشمال إلى الجنوب حوالي/1400/م، وعرضها من الشرق إلى الغرب حوالي/900/م، وتخترق هذه المساحة قناة أو نهر صغير جاف صيفاً، وفي السنوات المطيرة تكون مياهه جارية حتى في الصيف، وإلى الشرق توجد قناة كبيرة وهي مأخوذة من نهر البليخ لإرواء الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة.

أرضية مسجد المدينة

أما حدود المدينة من الجهتين الشرقية والجنوبية، فهي غير واضحة المعالم بسبب التعديات، التي تعرض لها الموقع في تلك الأطراف من قبل الأهالي، أثناء قيامهم بحراثة الأراضي البعلية بواسطة الجرارات الحديثة.

في بداية العصر العباسي تعرضت المدينة لتدمير كامل أتى على كل بنيتها المعمارية، لذلك نجد أنَّ الهضاب والمرتفعات القليلة الارتفاع، تخفي في ثناياها البقايا المعمارية، التي تتكون منها مدينة "الفار" القديمة، وتشير هذه المرتفعات إلى وجود فناءات، وباحات تلتف حولها مجموعة من الغرف، كانت في الماضي تشكل دور وبيوت السكان وبعضها كان له صفة تجارية، وهذا الأمر لم يتضح إلاَّ بعد إجراء التنقيبات الأثرية في الموقع، تمتد مباني المدينة على أرض منبسطة باستثناء بعض المرتفعات الخفيفة».

من مكتشفات مدينة الفار

وعن الحفريات الأثرية في مدينة "الفار" تحدث "العزو" قائلاً: «بدأت الحفريات الأثرية المنهجية في مدينة الفار منذ عام/1981/م ولكن بشكل متقطع، إذ إنه خلال الثمانينيات من القرن الماضي، لم تنفذ إلاَّ ثلاثة مواسم تنقيبية، وكان لي شرف المشاركة في موسم عام/1989/م، ففي المواسم السابقة تم تقسيم الموقع إلى ثلاثة قطاعات/1/ و/2/ و/3/، وفي هذا الموسم استمر العمل في القطاعات الثلاث لمدة ثلاثة أشهر.

وفي المواسم اللاحقة تم الكشف عن أهم المجموعات السكنية في المدينة، والموقع يضمّ مجموعة من الحفر السطحية، وتشاهد اللقى المتناثرة في هذه الحفر السطحية، والتي تشير إلى وجود أبنية بقي منها فقط الجدران بارتفاعات تتراوح بين المتر الواحد ونصف المتر، وهي مبنية من مادة الآجر المشوي على أساسات من الحجر الحواري الأبيض.

من عمليات التنقيب عن الآثار

في القطاع الغربي وبالتحديد بموازاة الضلع الغربي من سور المدينة، وعلى بعد/50/م من برج الزاوية الشمالي الغربي، ظهر بناء له عقود من مادة الأجر، وهذا البناء مملوء بالأنقاض والآكام حتى مستوياته العلوية، وبعد تنظيف المكان من الأنقاض، تبين أنَّ هذه المنشأة تعود إلى بناء معقود على شكل خزان ماء، كان يأخذ الماء من رأس قناة صغيرة قادمة من جهة الغرب، وهي على شكل نافذة تنتهي بقوس مروس محطم عثر علية ملقياً في وسط البناء من الجانب الشمالي».

ويتابع "العزو" حديثه قائلاً: «يتكون خزان الماء هذا، من ثلاث قبوات متصلة يفصل بينها دعامات عمودية من مادة الآجر، تنتهي بأقواس مروَّسة، وأثناء تنظيف أرضية الخزان، تم تسجيل بعض الطرق الفنية مثل المصطبة الصغيرة المائلة عند الأطراف السفلية للجدران من الداخل، كانت تستخدم لسهولة عملية التنظيف، كما أنَّ الطلاء المستعمل الذي كسيت منه الجدران كان من النوع العازل للترشيح. ومن خلال عملية إزالة الردميات التي كانت تملأ أرضية الخزان، تبين أنها رميت ضمنه في الفترة التي لم يعد سكان المدينة بحاجة له، بعد أنْ استعاضوا عنه بالآبار وبالأقبية التي كانت توصل إليهم الماء.

وقد عثر على بئر بالقرب من صهريج الماء من الجهة الشمالية، كان مملوءاً بالأنقاض، لقد ضمت الأنقاض المستخرجة منه كسراً فخارية بعضها يعود إلى القرن التاسع الميلادي وبعضها يعود إلى القرن الثامن الميلادي».

وعن أنواع الفخار المكتشف في مدينة "الفار"، يقول "العزو": «النوع الأول من الفخار هو الفخار العادي، إنَّ أغلب الكسر الفخارية التي تمّ جمعها وفرزها من أنقاض صهريج الماء، وكذلك من البئر الذي تم العثور عليه بالقرب من الصهريج قد تم ترميمها، وبعضها يشير إلى صناعة متطورة، ويمكن أن نشير إلى عدة أنواع من الجرار أهمها: الجرار ذات العراوي الثلاثة، وهي تتميز بأنها مزينة في أقسامها العلوية، ولهذه الجرار فوهات واسعة.

أما النوع الآخر من الجرارِ العادية ذات العروة العرضانية والعنق المرتفع، ويبدو أنَّ هذه الجرار كانت تصنع لحفظ المواد الدسمة مثل السمن واللحوم المجففة، وغير ذلك من الاحتياجات السكانية. أما النوع الثالث من الجرارِ الفخارية، التي تشكل القاعدة الواسعة للصناعات المحلية في مدينة "الفار"، هي الجرار التي وجد عليها كتابات عربية، ولها عنق مرتفع وهذا العنق مزين بحزوز أفقية، وهناك أنواع أخرى من الأواني مثل الأباريق والمخامر، وقدور الطهو المصنوعة من التربة الحمراء، وفي متحف "الرقة" نماذج من صحون صغيرة الحجم لها في الوسط زر مرتفع على شكل مقبض، عثر عليها في مدينة "الفار" وهي تشبه ما عثر عليه في قصر "هارون الرشيد" في "الرقة" التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي».

ويتابع "العزو" حديثه في السياق ذاته، قائلاً: «كانت الأجزاء والكسر الخزفية الملتقطة من خزان الماء ومن البئر، تعود إلى صحون كبيرة وأخرى صغيرة، أغلبها مدهونة بطلاء يشير إلى رسوم بدائية الشكل منفذة بالألوان الصفراء والخضراء والبنية، وبعض الكسر الأخرى يعود لجرار خزفية مدهونة باللون الأزرق الداكن، وهي تشبه تلك التي كان قد عثر عليها أثناء الحفريات الأثرية داخل قصور "هارون الرشيد" في "الرقة" العباسية، وغالباً ما تعود إلى القرن التاسع الميلادي.

أما الصحون الخزفية، فهي من النوع المتأثرّ بصناعة الخزف الصيني، من النوع المسمى خزف "تانج" الذي يعود تاريخ صنعه إلى فترة الحضارة التانجية/618-908/م "الصينية" من الطراز العباسي بـ"العراق" و"مصر" و"إيران" من القرون الميلادية/8/ و/9/، وأحسن مثال على هذا النوع من الخزف، هو الصحون المزينة بالتنقيط التي كانت معروضة في دار الآثار العربية في "بغداد" قبل الغزو "الأمريكي" لها، وأيضاً الكسر الخزفية الهائلة التي عثر عليها في مدينة "الفار"».

وعن الــزجاج المكتشف في مدينة "الفار"، قول "العزو": «تم العثور على مجموعة من اللقى الزجاجية بعضها قطع كاملة، هي الآن معروضة في متحف "الرقة" الوطني، كما أنَّ الكسر والقطع الزجاجية الناقصة الملتقطة من خزان الماء والبئر، تمّثل كمّاً طيباً من الأكواب والنفخات الصغيرة والكبيرة.

ومن الكسر الزجاجية الملتقطة من صهريج الماء في مدينة "الفار"، نجد لونها أزرق داكناً وبعضها له لون حليبي، ومن الأواني المميزة، قطعة زجاجية على شكل نفخة أجاصية لها قعر مسطح، وهناك كسر خزفية أخرى لصحون وأكواب مزينة بتجويفات شطلية الشكل.

يعود تاريخ هذه النماذج إلى القرن الحادي عشر الميلادي، كما انه عُثر على كسر زجاجية تشير إلى أنها صنعت ضمن قوالب ما يدل على صناعات زجاجية متطورة في منطقة "الرقة"، ومن أهم مراكز هذه الصناعات الزجاجية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين الرقة القديمة، وتل "شاهين" الواقع على الضفة الغربية لوادي حوض البليخ بحوالي/30/كم شمال مدينة "الرقة"».

وحول الواقع الأثري وتاريخ مدينة "الفار"، حدثنا السيد "محمد سرحان الأحمد"، مدير الآثار والمتاحف في "الرقة"، قائلاً: «تعمل في الموقع بعثة مشتركة سورية- ألمانية، وذلك منذ عام /1986/م وبشكل متقطع، وقد تم الكشف عن مجموعة من القصور شيدت أساساتها من الحجر المشذب، أما الجدران فبنيت من الآجر والجص.

كذلك ما تبقى من الباب الشمالي والجنوبي، والتي تذكرنا هندسة عمارتها بهندسة قصور "البادية" الأموية، كما في قصر "الحير" الشرقي والغربي، و"الخرانه" و"الأزرق" و"الحلابات"، وقد زينت جميع أبواب ونوافذ، ومحاريب الصلاة في المباني المكتشفة بأفاريز جصية ذات طبعات تختلف عن الرسوم التزيينية لنباتات الكرمة، وهي ذات مواضيع مدهشة.

كما تم الكشف عن خزانات، وأحواض تجميع المياه، وقنوات صغيرة تحيط بالأبنية الأصلية في التجمع البنائي الشمالي لأغراض الحمامات والمطابخ، ومنها حمام صغير يقع إلى يمين مركز الحصن، و/16/ عموداً منخفضة ودائرية تحيط بحوض مثمن الأضلاع ذي طينة ومـلاط غير نفوذ للمياه، وقد تهدمت المباني بفعـل الهزات الأرضية المتلاحقة التي ضربت المنطقة سابقاً».

وحول أعمال البعثة المنقبة في موقع مدينة "الفار"، يقول "الأحمد": «استأنفت البعثة الوطنية السورية أعمالها في الموقع المذكور، وهذا موسمها الثالث في الموقع، حيث كشفت في الموسم السابق عن بناء يعود لقصر الإمارة الخاص بحصن "مسلمة بن عبد الملك"، والعديد من الغرف لسكن الأعيان، ووجود خزانات مياه، والبوابة الشرقية، ومكتشفات أثرية سلمت لأمانة المتحف الوطني في "الرقة" أصولاً».