تقع مدينة "الرصافة" الأثرية بالقرب من "الرقة"، وقد بدأت التنقيبات الأثرية فيها منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وأثناء التنقيبات الأثرية التي نفذت عام /1982/م عثر المنقبون على مجموعة من الأواني الفضية، كانت في الماضي تخص كنزاً كنسياً... وقد أرسلت مباشرة إلى المعمل الفني في المتحف الوطني في "دمشق"، حيث تم تنظيفها، ومن ثم أرسلت إلى المتحف الحكومي في "بون" العاصمة الألمانية في سنة /1987/م، ومن ثم تم ترميمها ومعالجتها معالجة فنية متطورة، وفي عام /1988/م أعيدت إلى المتحف الوطني في "دمشق".

تعتبر مدينة "الرصافة" من المدن الأثرية التي كان لها شأن عظيم إبان الفترتين الرومانية والعربية، وقد ورد أقدم ذكر لها في الحوليات الأشورية في القرن التاسع قبل الميلاد، كانت "الرصافة" في الفترة الرومانية عبارة عن موقع عسكري يشرف على الحدود العربية ومراقبة أحوال السكان في البادية، وذلك في عام/300/م، وقد حظيت هذه المدينة بشرف دفن القديس "سرجيوس" في كنيستها الكبرى، الذي استشهد في مدينة "إيمار"، "مسكنة" الحالية على يد الرومان بسبب اعتناقه للدين المسيحي الجديد. و"سرجيوس" كان ضابطاً سورياً يخدم في الجيش الروماني، وبذلك تحولت "الرصافة" إلى مكان مقدس يحج إليه المؤمنون من كافة أصقاع الدنيا.

.. إنّ كافة هذه الأدوات تعود إلى فترة الحروب الصليبية، حيث كثرت الاضطرابات والتوتر بين الشرق والغرب

في الفترة الرومانية حصنها القيصر "جستنيان" /527 ـ 565/م، وسميت آنذاك بـ"سرجيو بوليس" وتحولت إلى مركز رئيس لرئيس الأساقفة المدعو "إبراهيم"، و"للرصافة" سور دفاعي طوله /2/كم تقريباً، مزود بأبراج دفاعية عددها /56/ برجاً، ذات أشكال مختلفة، ومكون من طابقين بينهما ممشى مفتوح على طول السور، وضمن هذا السور توجد مجموعة من المنشآت المعمارية مثل الكنيسة البازليكا "أ" الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية.

من محتويات الكنز

أما خزانات المياه، فتقع في الزاوية الجنوبية الغربية، ومجموعة أخرى من الكنائس الصغيرة المخصصة لإقامة القداس والاحتفالات من قبل الحجاج والزوار المحليين. وفي الفترة العربية الأموية، حافظت المدينة على سمتها المسيحية، إذ أن جل سكانها والمحيطون بها كانوا من العرب الغساسنة. وفي هذه الفترة المزدهرة من تاريخ الدولة العربية تعايش المسلمون والمسيحيون العرب جنباً إلى جنب في كل البقاع السورية، وفي عهد الخليفة "هشام بن عبد الملك" تم ترميم أسوار المدينة وتجديد كنائسها وترميم "البازليكا"، وقام الخليفة ببناء مسجد جامع بمحاذاة "البازليكا" من الجهة الشمالية. كما أنه بنى مدينة جديدة في محيط المدينة القديمة التي سميت بـ"رصافة هشام".

ظلت المدينة في طي النسيان حتى أعادها إلى الأذهان الرحالة الإنكليزي "هاليفي" عندما مرّ بالقرب منها سنة/1864/م، حيث أنه قام بتصويرها، وعمل لها مخططات طبوغرافية. وتبدو أطلال المدينة اليوم في حالة غير مرضية، فإلى جانب أعمال التنقيب الأثري، تحتاج المدينة إلى أعمال ترميم واسعة. كانت الكنيسة الكبرى "البازليكا" كما أسلفنا مركزاً مهماً لعبادة القديس "سرجيوس"، إلى جانب أنها كانت كنيسة خاصة بالأسقف ومكان إقامة الكهنة، أما باحاتها الكبيرة والكنائس الصغيرة الأخرى، فهي كانت مخصصة لإقامة الشعائر الدينية من قبل الحجاج والزوار.

شمعدان

في الجهة الشمالية من "البازليكا" الكبرى كانت توجد باحة كبيرة، وقد شيد فيها أماكن للسكن، وفي هذا المكان بالذات طمر آخر مواطن في "الرصافة" الكنز الفضي في وعاء من الفخار، أثناء الغزو المغولي لسورية، وهذا ما دفع بهذه المدينة إلى نهايتها الحتمية.

لقد عثر المنقبون مع الأواني الفضية على مجموعة من النقود التي تؤرخ هذا الكنز إلى العام /1243 ـ 1259/م. إنّ الكنز برمته مكوّن من خمس قطع مصنوعة من الفضة، وجزء منها مطلي بمادة الذهب ومخطط بالأسود ومنقوش باللون النيلي.. كانت هذه الأواني عند اكتشافها في حالة سيئة ومهترئة جداً، لذلك أرسلت فوراً إلى المعمل الفني لمعالجتها وتنظيفها، ثم بعد ذلك أرسلت إلى متحف "بون" في ألمانيا لترميمها.

من كنز الرصافة

إنّ الهدف من عملية الترميم لهذه القطع النادرة، هو تقوية المادة ولإعادتها إلى أصلها قدر المستطاع، أما أعمال التنظيف فالمقصود منه التثبيت واللصق، وهي خطوات مهمة لحماية الأواني من التلف والعطب، الذي قد يسيطر عليها بعد الاكتشاف. وفي كل من "دمشق"، و"بون" فحصت الحالة المعدنية، وكذلك الناحية التقنية باهتمام زائد من قبل العلماء، وبينت صور أشعة "روتنجن"، والتحاليل المعدنية لحالتها معطيات جديدة بشأن طرق تصنيع معدن الفضة في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين.

ورغم كل الصعوبات التي واجهها المرممون، المتمثلة بسرعة عطب المعدن، وظهور طبقة الصدأ على الأواني، وكثرة التشققات الداخلية، إلاّ أنّ جهدهم تكلل بالنجاح وتذليل كل الصعوبات التي واجهوها. لقد دعم المرممون جدر الأواني بمواد للتقوية، ومع ذلك ظلت تميل صفة الهشاشة، لذلك قرر العلماء والمرممون حفظ القطع الأصيلة بمنأى عن أي ضغط، وعرض نسخ منها في المتاحف.

يتألف كنز "الرصافة" من مجموعة من الأدوات المتنوعة، تختلف تقنيتها وصنعتها في الزمان والمصدر، ويبدو أنها قُدمت على شكل نذور من قبل المؤمنين القادمين من الغرب والشرق لزيارة ضريح الشهيد "سرجيوس"، وهي تقدم لنا غيضاً من فيض، مما كانت تحتويه "البازليكا" من أدوات قيمة وهامة. يقول الدكتور "تيلو أولبرت" في تقريره المقتضب الصادر عام/1989/ م ص/2/ ت. د. "جودت شحادة": «.. إنّ كافة هذه الأدوات تعود إلى فترة الحروب الصليبية، حيث كثرت الاضطرابات والتوتر بين الشرق والغرب». ويبدو أن الصينية المصنوعة من الفضة، وكذلك قاعدة الكأس المنفردة قد صنعتا في ديار الغرب، حيث عثر في شمال وغرب أوروبا على نماذج مماثلة.

بينما يرى العلماء أن طاسة الكنز الفضية مصدرها شمال "فرنسا"، استناداً إلى العنصر الزخرفي والرموز المنقوشة عليها من سلالة "كوزي" الفرنسية، أما السراج الذي يشبه المبخرة، فتشير زخارفه على أنه من صنع شرقي، وتشير التقنية المظللة المتدرجة من فضة إلى نقش نيلي إلى ذهب، إلى أن صانع هذا القنديل أو السراج، كان ضليعاً بخبرات صناعة المعدن..

من جهة أخرى يبدو أنّ القنديل كان في أصله على شكل كأس، ثم حوّل إلى مبخرة وطور على شكل كأس، حيث قدم إلى كنيسة القديس "سرجيوس" على شكل هدية ونذر. أما الكأس النذري المصنوع أيضاً من الفضة، فهو مصنوع من عناصر فنية شرقية وغربية، إذ صمم على طريقة كؤوس القداس الأوروبية، لكن تقنية النقش النيلي يجعلنا نرجح أنه من صنع سوري، أما نمط الزخارف فهي تعود إلى أمثلة بيزنطية مصدرها المشرق العربي، وسورية بالأخص.

كنز "الرصافة" الأصيل الآن معروض في المتحف الوطني في "دمشق"، ونسخة منه معروضة في متحف "الرقة". ويظل هذا الكنز الصغير في حجمه، جدير بالتقدير والثقة والإعجاب، لما شكله من حالة طيبة ونادرة، حيث استطاع العلماء والباحثون من خلاله الوقوف على صناعة التعدين في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين في كل من أوروبا وسورية.