يقع "تل الممباقة" على الضفة الشرقية لنهر "الفرات" عند نهاية بحيرة "الأسد"، نحو /100/كم غرب مدينة "الرقة", ويبعد عن "سد الفرات" حوالي /50/كم تقريباً. وقد مر التل بمرحلتين الأولى، مرحلة الألف الثالث قبل الميلاد، وهي مرحلة غامضة، المرحلة الثانية، هي مرحلة الألف الثاني قبل الميلاد من /1500-1150/ق.م.

تقع أطلال مدينة (اكالتا) "تل الممباقة" على الضفة الشرقية لبحيرة "الأسد"، قبالة جبل "عرودة", ويعود الفضل إلى ذكر هذه المدينة المنسية للباحثة الإنجليزية "غروتشر ديل"، التي زارت هذه المنطقة في عام /1911/م، وكتبت أول وصف لهذه المدينة الغائبة في ثنايا "تل الممباقة"..

منذ عام /1969/م تقوم بعثة أثرية من جمعية الاستشراق الألمانية, بالتنقيب الأثري المنهجي في موقع "تل ممباقة", ويستطيع المشاهد اليوم رؤية أطلال المدينة وأسوارها الضخمة, التي خدمت كحصون وقائية ضد الحثيين والآشوريين والمصريين, أثناء فترة الصراع المريرة بين هذه القوى الثلاث للسيطرة على العالم القديم آنذاك, وذلك في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، للمدينة سور هام له بدايات أولية تعود إلى عصر البرونز المبكر, ويبلغ عرض هذا السور ستة أمتار، وفي الشمال شكل وادٍ عميق حماية طبيعية للموقع, كما شكل في الغرب انكسار نهر "الفرات" حماية أخرى للمدينة الأولى، التي بلغت مساحتها عشرة هكتارات..

من مقتنيات متحف الرقة

بعد انتهاء فترة الصراع الدولي, بين القوى الثلاث الأنفة الذكر التي جعلت من الأرض السورية مسرحاً لصراعها, ازدهرت المدينة ازدهاراً ملحوظاً, فقد اتسعت عبر مرحلتين باتجاه الجنوب والشرق, حيث اتسعت مساحتها إلى أكثر من الربع، وجعل لها أسوار جديدة ضخمة مزودة ببوابة مقوسة تضفي إلى خارج المدينة, ورغبة من البعثة الأثرية المنقبة في الموقع في استكشاف سور المدينة وبواباتها, ومعرفة التاريخ الذي بني فيه السور, فقد ركزت عملها في المنخفض الواقع في الناحية الشمالية الشرقية من التل, حيث تكهنت بوجود ممر فيها أطلقت عليه اسم البوابة الشمالية الشرقية, وعند هذه النقطة حصراً يلتقي مسار السورين الخارجي والداخلي للمدينة.

ويلاحظ على جانبي المنخفض عند كلا السورين ارتفاع في التضاريس, مما يولد انطباعاً بوجود أبراج عالية على جانبي البوابة, ويؤكد هذا الاعتقاد وجود القطع الحجرية الكبيرة الظاهرة فوق سطح الأرض.. يأخذ سور المدينة مساراً باتجاه الشمال والجنوب, ثم ينعطف بزاوية قائمة نحو الغرب, حتى الأطراف الغربية العميقة لحدود المدينة..

عثر المنقبون أثناء مواسم التنقيب على معبدين كبيرين مساحة المعبد الواحد /33×14/م, حيث تقام فيها الأعياد الدينية، والاحتفالات الخاصة بالمدينة، كما تم التعرف على البيوت السكنية أغلبها مشيدة من مادة اللبن المجفف على أساسات من الحجر الحواري الأبيض, كما أن الشوارع والميادين كانت مرصوفة بالحصى، وللمنزل ذي المساحة /15×15/م غرفة رئيسة للاستقبال، لها مدخل مطل على الشارع, وعلى جانبها الأيسر تقع الغرف الأخرى، وجميعها تستقبل ساحة الفناء المربع المزود بأماكن لتخزين المحاصيل الزراعية..

كما أن أغلب البيوت السكنية مبنية من طابقين ولها درج متحرك (سلم خشبي). وأثناء مواسم التنقيب الأثري تم العثور على رُقم مسمارية, هي في غاية الأهمية وكلها تتحدث عن مدينة "اكالتا"، وعن علاقاتها بالمدن المجاورة مثل "ايمار" و"توتول" وعن ملكها "موجور آض"، وعن أعيان المدينة، وكانوا يدعون "لوموشي آض". وفي متحف "الرقة" مجموعة كبيرة من مكتشفات "تل الممباقة".

لقد مارس سكان "اكالتا" شتى أنواع الأعمال الزراعية والتجارية، وكذلك الحرف اليدوية. وتفيد المعلومات المأخوذة من الرقم المسمارية, أنه كان للمدينة سوق تجاري كبير تتم فيه المبادلات التجارية المختلفة, ويباع فيه الماعز والأغنام وكذلك كل أنواع الحبوب والخضار والفواكه, وفي نص مسماري رقم /57/ إشارة إلى عملية بيع وشراء تمت بين شخص من "توتول" "الرقة", يعتقد أنَّ اسمه "عازو" أو "عزيز", وشخصين آخرين من "ايمار" "مسكنة", وقد تمت عملية الشراء والبيع هذه في بازار الغنم في "الممباقة"، بحدود عام/1350/ق.م..

يستنتج من اللقى الكثيرة لعظام الفيل التي تم العثور عليها في الموقع, أن الفيل كان يغطي المنطقة في فترة الألف الثانية قبل الميلاد، وكذلك حال الحيوانات الأخرى كالأسود والنمور والفهود.

مع مرور الزمن يبدو أن مدينة "أكالتا" قد مرت بظروف قاسية, منها أنها دمرت أكثر من مرة, ونستدل على ذلك من خلال ظهور طبقات الحرائق المتعددة, ويعتقد أن أحد هذه الحرائق كان بفعل الإمبراطور المصري الفرعون "تحوتمس الثالث", الذي تذكره الرقم المسمارية المكتشفة في "تل العمارنة", التي تفيد أنه في عام /1458/ق.م قام هذا الفرعون بحملة ضد سورية, دمر فيها المدن والقرى السورية المزدهرة، الواقعة على "الفرات" الأعلى من "إيمار" حتى "كركميش" "جرابلس"، وأن آخر تدمير للمدينة كان حوالي عام /1250/ق.م, حيث هجرت المدينة بشكل تام, لكن بعض اللقى التي تعود إلى العهدين الروماني والبيزنطي, تشير إلى أن الموقع سكن من قبل جماعات متفرقة في الفترتين المذكورتين.