تعدّ مدينة "الرقة" أول من استخدم الطين والفخار في تشييد المنازل في وادي الفرات، حيث استخرج "الحفَّارة" الفخار من باطن الأرض لوجودها منذ أيام العباسيين الذين بنوا قصورهم فيها، حتى قيل بأن كل عائلة في مدينة "الرقة" تعيش في متحف عمره ألف عام.

مدونة وطن eSyria التقت الباحث والمهتم بتاريخ الرقة "أحمد الظاهر" بتاريخ 10/8/2013 الذي تحدث عن بداية استقرار سكان "الرقة"، والدور الذي لعبه "الحفَّارة" في هذا الاستقرار، قائلاً: «قامت بعض العشائر العربية، بالهجرة إلى هذه الأرض البكر، فوصلوا إلى أطلال "الرقة" القديمة، إلا أنهم كانوا يخشون الدخول إلى خرائبها، وذلك لاعتقادهم أنها مسكونة بالجن، وفقاً لموروثهم الشعبي، وفي منتصف القرن السادس عشر تقريباً، وعندما قام العثمانيون ولغايات أمنية، ببناء مخفر لهم داخل أسوار المدينة القديمة، والذي كان يعرف بمخفر "قره قول"، بدأت بعض الأسر بالسكن حول المخفر العثماني، متخذة بادئ الأمر الخيام بيوتاً لها، حيث كان وجود المخفر يبعث الأمن والطمأنينة في نفوس هؤلاء السكان، وبدأت بذلك تتشكل نواة أولى للاستقرار والعمران في "الرقة"، وبدأ السكان يبنون بيوتهم من الطين بدلاً من الخيام، والتي تناسب حياة التنقل والترحال، وكان اعتمادهم على الطين نتيجةً لعدم وفرة مواد البناء، وبعد ذلك بدأت مهنة جديدة تشق طريقها للظهور، وهي مهنة "الحفَّارة"، وقد جاءت هذه التسمية من الفعل "حفر"، وهي جمع "حفَّار"، وكان ذلك في بداية الأربعينيات من القرن المنصرم، وكانت مهمة هؤلاء الحفَّارة تتمثل باستخراج مادة الفخار من باطن الأرض، ومن ثم بيعها للأهالي ليبنوا منها منازلهم، وهذا الفخار هو عبارة عن قطع صغيرة من الطوب المشوي، والتي بنى بها العباسيون قصورهم، والسور المحيط بمدينة "الرقة"، وهي تشبه إلى حدٍّ بعيد مادة (القرميد) المستخدمة حالياً في البناء، وقد كان الحصول على هذا الفخار يحتاج إلى جهد كبير، وخبرة كافية لمعرفة أماكن تواجده وكيفية استخراجه».

في الواقع بدأت مهنة الحفارة بالاندثار، في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك بعد دخول مواد البناء الحديثة كالبلوك والإسمنت والحديد وغيرها من المواد، وذلك بفضل بعض القادمين إلى "الرقة" من ريف "حلب"، ويقول المرحوم الدكتور "عبد السلام العجيلي"، في معرض سؤاله عن أبنية "الرقة" القديمة، المبنية من الفخار: إن كل عائلة في مدينة "الرقة" تعيش في متحف عمره ألف عام

وأضاف: «أما المنطقة التي كان يتم فيها العمل، فكانت تسمى "الخربة"، وهي الممتدة تقريباً من شرق شارع "المنصور" إلى السور شرقاً، ومن آثار "المسجد الجامع" وحتى شارع "القوتلي"، وهي منطقة أثرية بالكامل، وهكذا توافرت المادة الأولية ليبني الناس بيوتهم منها، والتي ما يزال إلى الآن عدد كبير من هذه البيوت موجوداً في "الرقة" وهي مسكونة وبحالة جيدة، وكان هؤلاء الحفَّارة، في الأربعينيات من القرن الماضي، يطلبون خمس ليرات سورية مقابل كل ألف قطعة من الفخار، ليرتفع السعر إلى ثماني ليرات سورية في الخمسينيات، وذلك بسبب كثرة الطلب على الفخار، نتيجة لزيادة عدد السكان الراغبين في الاستقرار في "الرقة"».

الباحث احمد الظاهر

وعند سؤال "الظاهر" عن أشهر الحفَّارين في تلك الفترة، أجاب: «من أشهر الحفارين في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كان "إبراهيم الخليل أبو الهيس" و"إسماعيل خليل الشيخان" و"محمود الظاهر" (الجزوري) و"صالح الهندي" (السراوي)، وقد كان جدي رحمه الله هو الحفَّار "محمود الظاهر" (الجزوري)، الذي توفي أثناء العمل، حيث كان يصلي داخل إحدى الحفر التي أعدها لاستخراج الفخار، فما كان إلا أن انهارت عليه هذه الحفرة فقتلته، وقد أعلن وفاته الدكتور "عبد السلام العجيلي" رحمه الله، والذي كان الطبيب الوحيد في مدينة "الرقة"، ومن طرائف الأمور أيضاً، أن الحفَّارة عندما يبيعون الفخار للأهالي كانوا يستعينون بشخص ليقوم بعدَّها، وذلك لعدم مقدرتهم أن يعدّوا حتى الألف، وكان هذا الشخص يدعى "عبد الله الشيخ"، وكان الحفَّارة يسمون الشخص الذي يقوم بعدِّ الفخار "العدَّاد"».

ويشير الباحث "محمد العزو" بالقول: «كان الإنسان القديم في حالة تعامل مستمر مع الطين وبشكل يومي، ومن هنا نستطيع القول إنَّ الآنية الفخارية هي حصيلة تعامل الإنسان مع مادة الطين واكتشافه للخصائص اللدنة لهذه المادة، ومن جهة أخرى معرفة ومهارة الإنسان في استخدامه للنار مكنته من معرفة حرق الطين حرقاً جيداً، كي يكتسب صلابة وقوة ضد الكسر، وتحمل للحرارة أثناء عملية طبخ الطعام، وفي هذا الإطار يقول عالم الآثار "جاك كوفان" عن القرى الزراعية الأولى في سورية وفلسطين، في كتابه "الوحدة الحضارية في بلاد الشام" ط، دمشق، /1984/م، ص /130/: .. وكان إنسان وادي حوض الفرات رائداً في إنماء معارفه، ويتجلى ذلك في استعمال الطين في العمارة والبناء».

من منازل الرقة الطينية

وعن أسباب اندثار هذه المهنة قال: «في الواقع بدأت مهنة الحفارة بالاندثار، في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك بعد دخول مواد البناء الحديثة كالبلوك والإسمنت والحديد وغيرها من المواد، وذلك بفضل بعض القادمين إلى "الرقة" من ريف "حلب"، ويقول المرحوم الدكتور "عبد السلام العجيلي"، في معرض سؤاله عن أبنية "الرقة" القديمة، المبنية من الفخار: إن كل عائلة في مدينة "الرقة" تعيش في متحف عمره ألف عام».