سعى الفنان والروائي "أيمن ناصر" أن تكون تجربته متفردة عن أقرانه من الفنانين، فكانت له بصمة مؤكدة في الفن السوري الحديث، حيث بدأ منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي متسلحاً برؤية فنية وخصائص بصرية دفعته لأن يجعل الهم الإنساني أول ما يشغله في إيصال فكرته إلى المتلقي، ثم انتقلت مؤخراً لغة التوصيل من الفن إلى الأدب.

موقع eRaqqa التقى الروائي أيمن ناصر بتاريخ 30/1/2012 وأجرى معه الحوار التالي..

  • المطّلع على تجربتك الإبداعية يرى أنك بدأت بالرسم ثم النحت ثم كتبت العديد من القصص وأخيراً توجهت إلى حقل الرواية حيث صدر لك رواية "اللحاف" التي كان لها صدىً مهماً في الأوساط الثقافية. هل تجد نفسك في كل ذلك؟ أم في الرواية حيث المساحة أكبر وأشمل لطرح الأسئلة؟
  • في مكتبه

    ** مازلت أذكر سنوات طفولتي على شاطئ "مريبط" تلك الناحية التي غمرها نهر الفرات بتلِّها الشهير وأوابدها العظيمة، وكانت من أجمل سنوات عمري. كنت حين أغضب أو أحزن أو أفرح ألجأ إلى الطين أصادقه بعد غياب، أكسب ثقته ثم أمدّده على طاولة الطفولة أعجنه، أُشكِّل منه تماثيل فرحة. أمنحه الحياة، فيمنح روحي الدفء.

    هكذا كانت بداياتي، مع النحت. وليس مع الرسم. أما تحولي إلى الرواية؟ ففي الفن التشكيلي الحديث، لست مجبراً على التفاصيل والشبه الفائق في رسم الوجوه، فالمتلقي يشاهد اللوحة ويجسدها حسب ثقافته، بينما في الأدب أنت معنيٌ بالكثير من التفاصيل والتجسيم وتشخيص الجزئيات لإقناع القارئ، لذا كنت أكتب شخصية (أرسمها وأنحتها) كما لو أنني أراها بين السطور بلحمها ودمها تتحرك أمامي.

    أيمن ناصر أمام إحدى منحوتاته

    أما سؤالك هل أجد نفسي في كل ذلك؟ نعم، في كل ذلك، فالإبداع لا يتجزأ، أما تحولي إلى الرواية لم يأتِ بقرار. فهو نتيجة طبيعية لثقافة الفنان وخياله الخصب ومخزونه البصري، ومن ثم أنا لم أتحول للكتابة على حساب الفن، فما زلت أنحت وأرسم وأشارك في كافة المعارض. كل ما هنالك أنني حين انتويت الكتابة أعدت ترتيب أثاث ذاكرتي من جديد. أتنقل من فكرة إلى فكرة مستغلاً توارد الصور عفو الخاطر، معتمداً تارة على سيرتي الشخصية، وتارة على خيالي، مستخدماً أسلوب التداعي كطريقة فعالة في الانتقال بين زمن الحدث الحاضر والأزمان المتخيلة. تماماً كما كنت أفعل وأنا أرسم أو أنحت مكوّناً كتلاً من الصلصال أعجنها، ثم أوزعها قطعاً مدروسة على جسد العمل، ثم أقتطع بعضها لألصقها هنا وهناك لتشكل في النهاية حركة متناسقة في الفراغ. وهكذا حالي حتى أنهيت النص، تاركاً للمتلقي أن يعرف بفطنته كم هو مضنٍ ومجهد أن يكون المرء فناناً تشكيلياً وروائياً بآن. وأشير هنا إلى أن التقنية المستخدمة في الرسم تختلف عن تلك المستخدمة في الكتابة. فألوان الرسام مهما تنوعت تبقى أقل اتساعاً من حدود الكلمة التي تتسع لرمزية عالية جداً. ولعلي وفقت في أن تكون "اللحاف" رواية تشكيلية كما كنت أحلم.

  • في تجربتك الروائية "اللحاف" تغلبتَ على إشكالية المكان. كيف تنظر لهذه الإشكالية؟ وهل بإمكاننا تجاوزها بمزيد من التورية؟ أم أنك لا تعير أهمية لربط القارئ لشخصياتك أو المكان والزمان بالواقع؟
  • بورتريه حديث لأيمن ناصر

    ** المكان في الرواية هو بطل مهم، إن لم يكن البطل الرئيس. فحين تكتب رواية لها رؤيتها الجمالية والموضوعية الخاصة ستجد نفسك إزاء حالات شديدة الوضوح في تشتت رؤيتها، وشديدة الغموض في دلالاتها، تحتار في اختيار المكان الذي يحدد نوعية شخوص الرواية ومستواهم الثقافي.

    عشت في اليمن عدة سنوات في "صنعاء" وفي منطقة "حوث" مكان أحداث الرواية. عرفت "الحوثيين" عن قرب وخالطت السودانيين. وإجابة لسؤالك: أنا لم أختر اليمن مكاناً للأحداث، فقد بدأت الكتابة من الذاكرة ومن الخيال. وطبيعة الأحداث هي التي فرضت كثيراً من الاختيارات المكانية والزمانية. ولعشقي للسفر، كان اختياري لأكثر من سبعة أماكن (مدن) متباعدة في الرواية. من "صنعاء"، إلى "دمشق"، و"أم درمان"، و"لندن"، و"الرقة"، و"مريبط"، و"حوث"، و"دير الزور".. فليس هناك أفضل من عدم الاستقرار لتحريض الفكر، وهو مكروه طبعا لأجل ذلك، على رأي "ألبير كامو".

    و"الرقة" تعيش في وجداني منذ الطفولة، ولا أتخيل نفسي أعيش في أي مكان آخر بنفس الحميمية التي أعيشها هنا مع أهلي و"الفرات" وأصدقائي. فالمكان له ذاكرة، كما لكل الأشياء. ومن الطبيعي أن أعير هذا الواقع المحلي أهمية تمنح القارئ مصداقية مكانية وزمانية في ما أكتب. أما التورية التي سألتِ عنها فهي إن وجدت فتتم عبر الاتكاء على التاريخ أو على الأسطورة من خلال تداعيات الذاكرة.

  • من خلال قراءة أولية لرواية "اللحاف" تتجلى ملامح التناص مع رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني "الطيب صالح". ما الملامح المشتركة للعملين؟
  • ** ليس ثمة تناص بين الروايتين بالمعنى الحقيقي لذلك. فقد أشرتُ إلى رواية "موسم الهجرة" وكاتبها متعمّداً على لسان "حمزة" بطل روايتي، وهو يستمع إلى حكاية ضيفه السوداني "سيد"، فقط، كي أثير رغبة القارئ في أن يبحث عن هذه الرواية ويقرأها، لأهميتها، وجمالية لغتها.

    أما الملامح المشتركة التي بين الروايتين فهي الشبه الكبير بين شخصية "سيد" في "اللحاف" وشخصية "مصطفى سعيد" في "موسم الهجرة" وشبههما سوياً بـ"الطيب صالح". إلى جانب تقاطع مقتل زوجة كل منهما في ظروفٍ خاصة بها وإن اختلف أسلوب القتل. وهذا تورية أن التاريخ يمكن إعادته روائياً، على الورق فحسب. لنقل: إنها (لعبة روائية) وليست تناصاً.

  • ما مدى تمثلك للمسكوت عنه في تجربتك الروائية الأولى "اللحاف" وكيف تنظر إلى العلاقة ما بين محيطك وقرّاء روايتك؟
  • ** اتُّهِمتْ روايتي بأنها تجاوزت المحظور الاجتماعي. بينما مشكلتها الأساسية أنها ظهرت في مجتمع عشائري وقبلي يزدحم بخطوط حمر ورقابات ظالمة، تهيمن عليه سطوة "التابو" الاجتماعي الذي أرى أن لا حدود لسقف الحرية في اقتحامه ما دام في حدود الأدب والتعبير عن الرأي.. فالأمكنة على اتساعها تضيق بالفنان أحياناً وحتى المدن بكل جمالياتها وتاريخها العظيم يحس المبدع أنها تشد وثاقه بمفاهيم ضيقة قد تجاوزها الآخرون منذ عشرات السنين فيحلق بعيداً بأعماله يدافع عن وجوده ويمنح حياته معنى ووجوده أهمية. فعالم الإبداع واسع ومشرِعٌ أبوابَه للتحليق والإبحار دون قيود أو حدود.

    وأقول صادقاً إن ما كتبته في الرواية لم أكتبه متعمداً بغرض الإساءة أو الاقتصاص من أحد. وهذا ليس اعتذراً لأنني لم أرتكب سوى "إبداعاً" لاقى قبولاً لدى الكثير من الأدباء والمثقفين وقبولاً جماهيرياً يجعلني فخوراً ولا يجعلني مضطراً للدفاع عن نفسي.

    يذكر أن الفنان "أيمن ناصر" المولود في "الرقة" والدارس لفن النحت في مركز الفنون التشكيلية في "اللاذقية" واللغة العربية في جامعة "حلب"، هو رئيس فرع اتحاد التشكيليين السوريين.