أن تكون أديباً مبدعاً، تحتاج إلى كثير من الأدوات، تبدأ ببذور الموهبة التي لا تحدها حدود معرفية، وليس بإمكان أي كاتب مهما علا شأنه وتفجرت موهبته أدباً وإبداعاً، أن يعطيك وصفة سحرية لتصبح بها أديباً.

فكل تجربة تحمل في طياتها ازدواجية الذاتي والموضوعي، وبإمكاننا أن نتأثر بجزء من ذاتية أي كاتب، لكننا من المستحيل أن نكون نسخة عنه، وما كتاب الروائي اللاتيني المعروف "ماريو بارغاسا يوسا" "خمس رسائل إلى روائي شاب"، وكتاب الشاعر الألماني العالمي المعروف "ماريا ريلكه رانير" "عشر نصائح إلى شاعر شاب"، إلا محاولة لتوجيه الجيل الناشئ للاشتغال في حقول الأدب، وإعطائه الأبجديات، التي تساعده في شق طريقه في الحقل الأدبي.

اقرؤوا ثم اقرؤوا ثم اقرؤوا..... تعلموا كيف تحبون الجَمال والعالم والجنس الآخر، لأن نبع الإبداع لا يتفجر إلا بالحب. تريثوا حتى تنضجوا، فلن ينضج العنب زبيباً حتى يتحصرم، ولا تغتصبوا الفِكرة أو الجماعة أو الحزب أو الطائفة، لأن المغتصب ينظر إلى البحر الواسع من مستنقعه الخاصّ، وتعلموا كيف تفيدوا من تجارب الآخرين وانظروا إليها باحترام، ولا تستسلموا لعقدة أوديب في الكتابة، فليس ضرورياً قتل الأب كي تأخذ مكانه. تواضعوا وثقوا بأنفسكم بلا غرور فكلاهما وجهان لعملة واحدة. وحافظوا على ما تعتقدونه إبداعاً لكم وارموا دون تردّد ما تشكون بأنه دون ذلك، ولا تهابوا التجارب فهي الجرار التي تتخمرّ فيها الموهبة وتتعّمق، ومهم أن تحررّوا من كل القيود فمقتل الموهبة الأغلال الداخلية والخارجية

وكل تجربة أدبية في بيئة معينة تحمل بين طياتها خصائصها المائزة، وفي هذا اللقاء نحاول استطلاع آراء بعض أدباء الوسط الثقافي الأدبي الرقي، أملاً في عثور القارئ الشاب العربي عموماً والرقي خصوصاً على ما يفيده وينفعه من تجارب أدباء سبقوه، ويكون بوصلة له في توجيه دفة سفينته نحو حيوات تزخر بالصخب والفلسفة والفكر واللغة التي تحمل شحنة كارثية من الأبهة والرقي، جاعلة منه أديباً شاباً يسعى للوصول إلى أقصى درجات المتعة الروحانية.

صورة تجمع العجيلي وماجد العويد ويوسف دعيس

بدأ استطلاعنا مع القاص والروائي الرقي "ماجد رشيد العويد" الذي بدأ حديثه قائلاً: «بداية الأمر يجب أن تتوافر الموهبة لدى الأدباء الشباب، ثم أن يعملوا على تنميتها. وسأعتمد على ذاكرتي في إيراد مقولة لأديب انكليزي تتلخص فيما يلي:

إن القراءة مع الموهبة تصنع من الكاتب ملكاً، وأما القراءة مع المتابعة من دون موهبة فإنها تصنع منه أميراً، وأما الموهبة من غير جهد فإنها تجعل منه صعلوكاً. وهكذا فأنت تلاحظين أهمية أن تتم سقاية ورعاية هذه الموهبة حتى تثمر وتنتج أدباً رفيعاً بسوية عالية، وأن يطلع على التراث بشكل جيد، ويتصل به، ويُكوّن معه صلات عميقة، وعلى رأس هذه الصلات أن يقوم بقراءة أمهات الكتب مثل الأغاني، والعقد الفريد، ومروج الذهب. بالطبع يجب أن يكون ملماً بالقرآن وتفاسيره، وهذه الكتب، وفي مقدمتها القرآن الكريم، تعلّمه اللغة على أصولها وتجعله يمسك بناصيتها؛ واللغة، كما تعرفون، شرط أساسي من شروط الكتابة الناجحة.

أحمد المصارع

أشير هنا، أيضاً، إلى أهمية قراءة كتاب قصة الحضارة "لول ديورانت"، لأنه يجعل الأديب متصلاً بحضارات الإنسان منذ نشوئه، وأن يكون على صلة بالشعر العربي قديمه وحديثه، لأن الشعر يفعل فعل الكتب الأخرى، من حيث تهيئة الكاتب لصناعة علاقة سليمة مع اللغة، ويجب أن يقرأ الأديب الناشئ آداب الأمم الأخرى في تاريخها، ويطلع عليها في تطورها، ويقع ضمن هذا الكلام وجوب قراءة ما كتبته أسماء هامة مثل، "غابرييل غارسيا ماركيز"، "يوسا"، ومن الكتاب العرب شيخ الروائيين "نجيب محفوظ"، و"عبد السلام العجيلي"، وصولاً إلى "أمين معلوف" و"الكوني"، وأن يكون الزمن المخصص للقراءة يومياً لا يقل عن سبع ساعات، يقوم بتقسيمها بين الأدب والتراث والشعر، ويجب أن يطلع وأن يلمّ بعلوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة، أي إن أهم خطوة للأديب الناشئ للخوض في غمار الأدب القراءة المستمرة، وهكذا يكون قادراً على إنتاج الأفكار، وأما الجودة في صياغة هذه الأفكار فتحتاج إلى الكتابة اليومية، أي إنه على الأديب أن يجعل منها فعلاً يومياً بالممارسة والمتابعة، ولا يعني هذا بالطبع أن يُعِد للنشر ما يكتبه كل يوم، ولكن المقصود صناعة الدربة».

القاصة والروائية الرقية "نجاح إبراهيم"، تحدثت بدورها قائلة: «لا شك أن أول عمل يجب أن يقوم به الأديب الناشئ هو القراءة المستمرة، لأن القراءة تصقل الموهبة. وإعادة النظر في النص الذي يكتبه مراراً، وذلك من حيث الفكرة والأسلوب واللغة، وأخذ رأي الأدباء الذين سبقوه.

ابراهيم العلوش

وإن كتب نصاً عليه أن يضع في حسبانه أن يكون النص مغايراً، ومن المهم أن يكون محركاً كأن يحرك الكوامن والخيال، وأن يجعل من نفسه ناسكاً متفرغاً للكتابة، وأن يطور لغته، فلا تكون عادية إنما تخالطها اللغة الشاعرية، حيث تعتمد على الرمز والإيحاء.

أن تكون الكتابة لديه رقيقة، يقول "سليمان العيسى"، الكتابة أرق أي همٌّ، وتفكير بما تكتب، ولعلنا لا ننسى قول المتنبي: "أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ"، لأن الأرق هو ما يجعل فتيل الرغبة عند الكاتب مشتعلاً، وإن تناوله النقد عليه أن يتنفس بعمقٍ، وأن يتقبله سواء كان إيجاباً أم سلباً، ولا "بقدر وزنك يكون النقد الآثم المفتعل" هكذا قال "عائض القرني" فاحتمل لأنك على صواب.

وعليه أن يأخذ ما هو مقتنع به، ولا يمشي مثل محارب بعد الهزيمة، إنما ينتفض كما فعل نابليون حين نظر إلى نملة صغيرة فشلت مراراً وهي تصعد جذع شجرة حاملة مؤونتها، ولكنها في النهاية انتصرت لأن ثمة رغبة في الوصول.

أخيراً ألا يجزر الألم، لأن الأدب ألم مقدس كما قال "سارتر"، عليه أن يتذكر أن بداية كل أديب مرموق كانت متواضعة لدرجة أنّ معظمهم حبّذوا لو تحرق أعمالهم الأولى، وعليه أن يتزود من العصر، ويكون كاتباً معاصراً، وأن يستمرّ في طريقه، وألا ينظر إلى الوراء، بل أن يتسلق نحو اكتماله».

أما القاص والروائي "إبراهيم العلوش" فتحدث قائلاً: «من أهم الشروط للأديب الناجح السوية التعليمية أي التعليم الجامعي، لأنه أمر ضروري جداً، لأن الشهادة الجامعية هي العتبة الأساسية، ودون هذه العتبة يحتاج الأديب الناشئ إلى بذل جهد مضاعف، وآخذ مثالاً على كلامي الأديب "طه حسين" و"عباس محمود العقاد" من رواد النهضة، فالتعليم الأكاديمي جعل من "طه حسين" (الكفيف)، علم مهم من أعلام النهضة الأدبية والفكرية، بينما "عباس" بذل جهوداً كبيرة، لكن نجاحه بقي أقل بكثير من نجاحات "طه حسين"، والاطلاع على التراث العربي بشكل جيد والاستفادة من مخزونه الأدبي، والجمالي، وخاصة الشعر العربي، والقراءة المتعمقة على التاريخ العربي (الطبري، قصة الحضارة، والكامل في التاريخ)، وأهمية قراءة الأدب العربي المعاصر من بداية النهضة حتى اليوم، لأنه يشكل الأساس لفهم التجربة الأدبية العربية الحديثة، ومن المهم جداً للأديب الناشئ قراءة الأدب العالمي، وخاصة فن الرواية، لأنه أصبح الفن الجامع لكل النواحي الجمالية والفكرية والأدبية، ومتابعة الواقع الاجتماعي والسياسي، لكن دون الانغماس الكلي في أحد جوانبه، لأن الكثير من الهواة استحوذت عليهم الاهتمامات السياسية والاجتماعية، وأقصتهم عن الاستمرار في الحياة الأدبية، والاهتمام باللغة العربية، ويجب أن يتزود بلغة أجنبية واحدة على الأقل، وعدم التحول إلى غوي أو لغوي، وهذا ما جعل الكثير من الهواة يتفرغون للغة وفقهها بدلاً من استعمال اللغة في خدمة الأدب، والعمل المتواصل وعدم الركون للكسل بحجة انتظار شيطان الشعر، أو شيطان الأدب، أو إلى ما ذلك من مبررات الكسل، والاهتمام بالفنون الأخرى مثل الفن التشكيلي والمسرح والسينما، لأن فيها جوانب جمالية ترفد الأدب وتغنيه، وعدم غش الذات والإصرار على ما هو غير موجود في حال عدم توفر الموهبة، والبحث على مجال جديد يحقق ذاته به، ولو في جوار الأدب أو الاهتمامات الفكرية أو الصحفية أو حتى المهنية الخاصة، لأنها تعتبر إبداعات ومهمة للإنسانية مثلها مثل الإبداع».

القاص والروائي "أحمد المصارع" تحدث قائلاً: «بداية السؤال يحتوي في مضمونه على إشكالية، والإشكالية تتمثل بالجانب الفني والأدبي، الذي يعتمد بالأصل على الموهبة، والموهبة تعرف كيف تشق طريقها نحو الظهور أو النجاح من خلال التجربة الأدبية أو الفنية، أما إذا كان المقصود (أديب) يقلد أو يحاكي أو يصور الواقع، فمثل هذا التوجيه ممكن أو وارد، ويكون بمثل هذه الحالة كمن يحاول صناعة شاعر كما ورد ذلك في كتب التراث.

والمنطلق الأول لأديب شاب هو في المبدأ السقراطي (اعرف نفسك)، فكلما فكر الإنسان في ذاته، في حياته، في معنى وجوده، فإنه إن كان يمتلك الحس والموهبة الأدبية والفكرية فإنه سيكتشف شيئاً فشيئاً، وسيكون مبدعاً وفقاً لمقولة "تشيخوف" الشهيرة (اكتب عما تريده تكون مبدعاً).

وأن يكتب الإنسان عما يريد مشكلة صعبة، لا يستطيع تجاوزها في الأدب إلا الأديب الموهوب، وحتى لا تكون الأعمال مملة كالحرف اليدوية، ينبغي أن يلتفت الأديب الشاب إلى أهم عنصر في الإبداع، وهو الإحساس بالحرية الذاتية، وأن يلزم نفسه بالكتابة النفسية، وألا يصطنع نظرة حانية للإنسان لكي يبدو عاطفياً، وألا يكون لديه شبق (فيتشية) فيتعلق بالجسد العاري، فيكتب كتابة إباحية، وألا يملأ صفحات كتابه صوراً عن الطبيعة الموضوعية، وهو في حالة فقدانه لذاته، وألا يمارس الأدب كما لو كان وظيفة، ومن المهم جداً ألا ينحاز لطبقة معينة، أو أن يكون مؤدلجاً، ومن الضروري أن يكتب بشجاعة ودون خوف وخدر، وأن يكون موضوعياً».

الشاعرة الرقية "ندى سلامة" تحدثت قائلة: «اقرؤوا ثم اقرؤوا ثم اقرؤوا..... تعلموا كيف تحبون الجَمال والعالم والجنس الآخر، لأن نبع الإبداع لا يتفجر إلا بالحب.

تريثوا حتى تنضجوا، فلن ينضج العنب زبيباً حتى يتحصرم، ولا تغتصبوا الفِكرة أو الجماعة أو الحزب أو الطائفة، لأن المغتصب ينظر إلى البحر الواسع من مستنقعه الخاصّ، وتعلموا كيف تفيدوا من تجارب الآخرين وانظروا إليها باحترام، ولا تستسلموا لعقدة أوديب في الكتابة، فليس ضرورياً قتل الأب كي تأخذ مكانه. تواضعوا وثقوا بأنفسكم بلا غرور فكلاهما وجهان لعملة واحدة.

وحافظوا على ما تعتقدونه إبداعاً لكم وارموا دون تردّد ما تشكون بأنه دون ذلك، ولا تهابوا التجارب فهي الجرار التي تتخمرّ فيها الموهبة وتتعّمق، ومهم أن تحررّوا من كل القيود فمقتل الموهبة الأغلال الداخلية والخارجية».