بعد كتابيه "نحن والعالم" و"العالم من حولنا" عن دار "أجيال"، ها هو الباحث الرقي "خلف علي المفتاح" يصدر كتابه الثالث "إضاءات سياسية"، ويقع الكتاب في /341/ صفحة قطع وسط، وقدمت الدار كتاب "المفتاح" ببضعة سطور، تعبر عن أسلوبه الشيق في تلمس القضايا السياسية الراهنة .

هذا الكتاب يشكل إضاءة حقيقية على مواضيع آنية هامة، في إطار تحليل لما يجري في منطقتنا العربية. وكما يقول مؤلفه: «قراءة للواقع في حركيته لا في جموده».‏

إن من يقرأ الخطاب السياسي الأمريكي يستشف تلك الخلفية الفكرية، والثقافية التي تأسس عليها، لقد حاولت إدارة الرئيس "بوش" إعطاء مسحة أخلاقية أو دينية لسلوكها العدواني المستمر على بعض الدول، تحت ذريعة نشر الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وفي ذلك محاولة لتزييف الحقائق التي تقف وراء ذلك العدوان

ويتضمن الكتاب مقدمة ومجموعة فصول هي بالترتيب أمريكا والعرب، لبنان في دائرة الاستهداف، بين الثقافة والسياسة، التاريخ يقاوم.‏ وهي عبارة عن مجموعة مقالات مختارة بعناية فائقة، كان قد نشرها مسبقاً بعدد من الصحف المطبوعة في سورية ومنها "البعث" و"الفرات"، ومواقع الكترونية منها كلنا شركاء.‏

خلف المفتاح

والمقدمة تلخيص للقارئ برؤية عارفة مثقفة، لماذا منطقتنا مستهدفة، ولماذا يجب أن نكون بموقع مقاومين للاستهداف؟ ويلخص المفتاح الإجابة عن هذين السؤالين المهمين بسرد سياسي تاريخي، فمنطقتنا مهمة دينياً، كونها مهبط الديانات السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية، وموقعها الجيوسياسي. وثرواتها وأهمها البترول، عصب العصر الاقتصادي.

وما يميز أسلوب "المفتاح" بهذه المقدمة، إقناعه، والكلمة التي تأتي بموقعها وتغني متلقيها وإلمامه بمنهج البحث والتفكير، فمصطلحاته دقيقة جداً، وإلمامه منقطع النظير بالمشهد السياسي العالمي، واطلاعه على أفكار مفكرين سياسيين عالميين أمثال "فرانسيس فوكاياما" و"صموئيل هينتنغتون" وتأييدها في مواقع معارضتها في مواقع .

غلاف الكتاب

وسنتناول في دراستنا بعض مقالات فصل أمريكا والعرب، نظراً لأهميته لأنني لاحظت من خلال تتبعي للكتاب، تخصص "المفتاح"، واطلاعه العميق على العلاقات الأميركية العربية، وصعوبة تناول الكتاب بالكامل نظراً لغزارة المعلومات التي يحتويها.‏

والمقالة الأولى في الكتاب جاءت تحت عنوان: "المنظومة الأخلاقية وأثرها في السياسة الأميركية"، ومن يقرأ هذه المقالة يخرج برؤية واضحة ببدايات تكوين الرؤية السياسية والاقتصادية لرجالات الدولة الأمريكية في مرحلة تأسيسها، والتي ارتكزت على سيطرة طبقة سياسية كان ولا يزال همها الأول والأخير الربح، والنظرية العنصرية لرجال السياسة الأمريكية، وتضخيمهم لرؤى الفكر الذي ينيط بهم حمل رسالة القانون والديمقراطية والرفاه للعالم وظهور فلسفة "البراغماتية" (الذرائعية) التي تبنوها .

«إن من يقرأ الخطاب السياسي الأمريكي يستشف تلك الخلفية الفكرية، والثقافية التي تأسس عليها، لقد حاولت إدارة الرئيس "بوش" إعطاء مسحة أخلاقية أو دينية لسلوكها العدواني المستمر على بعض الدول، تحت ذريعة نشر الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وفي ذلك محاولة لتزييف الحقائق التي تقف وراء ذلك العدوان».‏

والمقالة الثانية: "أمريكا رؤية من الداخل"، وينفذ الباحث "المفتاح" من خلال هذه المقالة للفكر الجمعي الأمريكي، الذي لا يعرف شيئاً عن واقع، وجوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وإن الشاب الأمريكي معتم عليه إعلامياً لصالح "اللوبي" الصهيوني ومصالحه، يطالب العرب المتواجدين في أمريكا من خلال مؤسساتهم الإعلامية والمالية، والاكاديميين المتواجدين في جامعات أمريكا بإمكانياتهم المادية والبشرية، وهي كثيرة أن يلعبوا دوراً فعالاً في إيضاح الصورة .

إن ما جعلني أفرد هذه المقدمة هو متابعتي عبر الشاشة الصغيرة لحوار بين الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر"، وعدد من الأساتذة والطلاب في إحدى الجامعات الأمريكية، حول كتاب صدر له يتعلق بفلسطين، وقد أثارت بعض الأفكار في كتابه حفيظة اللوبي الصهيوني في أمريكا، وشكل صدمة للطبقة السياسة الأمريكية، وكذلك بعض المهتمين بالشأن السياسي الأمريكي، ومن خلال متابعتي للحوار توضحت لدي صورة أدق عن البنية الثقافية الأمريكية للشباب الأمريكي، التي تعكس قصوراً واضحاً في حقيقة ما يجري في المنطقة، وعن طبيعة الكيان الصهيوني الداخلية، ونوع الممارسة العنصرية والعنف المؤسسي الذي ينتجه حيال العرب.‏

والمقالة الثالثة جاءت تحت عنوان: "العرب وأمريكا تناقض الرؤيا والتفكير"، والعنوان ذكي، وفيه تلخيص تاريخي سياسي ثقافي لنقاط الاختلاف القديمة الجديدة بين العرب وأمريكا، فـ"المفتاح" يعري زيف الأطروحات الحقوقية والفلسفية التي يطرحها الساسة والمفكرين والمنظرين الموالين له أيديولوجياً، أمثال "فرانسيس فوكاياما"، صاحب كتاب "نهاية تاريخ"، ذائع الصيت، وهو من المحافظين الجدد، والمتطرف "صموئيل هينتنغتون" صاحب نظرية "صراع الحضارات" وفكرة "الرجل الأبيض"، المنوط به رسالة تحضير ما يطلق عليه أمريكياً، الشعوب المتخلفة، ويؤكد على أن أمريكا استمرار للاستعمار القديم، ممثلاً بفرنسا وبريطانيا، وهي حفيدة أوروبا الاستعمارية وهنا يطرح المفتاح نفسه مفكراً مقاوماً للمشروع الأمريكي، وهو ما يكرسه فعلاً في كتاباته ومحاضراته من خلال متابعتي له.‏

يقول المفكر "ميلاد حنا": «تبدأ الصراعات بين المجموعات البشرية بمنطلق أن كل مجموعة تعتقد أو تتوهم أن مشاعرها وتمسكها بتراثها وعقيدتها هي الصحيحة، بل الأصح، وبالنظر لما يجري في العالم من صراعات، حيث الولايات المتحدة هي القاسم المشترك الأعظم فيها، لأنها تريد إحكام قبضتها على دول العالم، من خلال استثمار قواتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية».‏

والمقالة الرابعة: "نبوءة إيزنهاور"، وترصد هذه المقالة انطلاقاً من آخر خطاب للرئيس الأمريكي الأسبق "دوايت إيزنهاور" العجرفة العسكرية الأمريكية، وجنونها الاستعراضي للقوة تضامناً وتعاوناً مع الصهيونية العالمية، وإسرائيل لتحقيق مشاريعهم المشتركة.

يؤكد "المفتاح" من خلال "إيزنهاور" العسكري المخضرم، الذي قاد جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية الجنرال المعايش للحرب بجانبها الإنساني، وليس أمثال جنرالات أمريكا اليوم الذين يعيشون حرب من خلال أزرار الكومبيوتر، وكأنهم في فيلم من إنتاج "هوليود"، إن هذه العجرفة ستؤدي بأمريكا إلى التهلكة .

إن ما يجري الآن الواقع من سياسات أمريكية، ومشاريع استعمارية واستثمارية، تنفيذاً للمخطط الإمبراطوري الأمريكي، الذي يمثله الرئيس "بوش" وكبار معاونيه، وبالتنسيق الكامل مع الصهيونية العالمية وإسرائيل، هو تأكيد لقراءة "إيزنهاور" وتحضيراته .

بهدوء باحث رصين، يكتب خلف علي المفتاح مقالاته، ويضمنها رؤاه وآراءه حول القضايا الكبرى التي تهم الشارع العربي، بحق هو باحث ومثقف سياسي من الطراز الرفيع على الساحة الثقافية الرقية، ولا أبالغ برؤيتي من خلال مقالاته بالصحف السورية المطبوعة، وخاصة "البعث"، التي أصبح لها قراء كثر، هو موضع ثقة من خلال تحليله أنه يحتل مساحة على الساحة الثقافية السورية.‏