«كان الشاعر الراحل "حمدو خلوف" مولعاً بالسفر، فمذ كان صغيراً، أحب التنقل بين المدن والقرى، حيث يلامس هناك أوجاع الناس وهمومهم، عشق "الرقة" إلى حدِّ الهيام، ومن شدة عشقه لها، أبى أن يغادرها مع أهله، عندما رحلوا إلى موطنهم في بلدة "بزاعة"، التابعة لمدينة "حلب"، وتركوه مكرهين، وهو طفل صغير، ليقضي طفولته في قرية "المشلب"، الواقعة على تخوم "الرقة"، من جهة الشرق، عند أصدقاء أهله.

تميَّز "حمدو" بالرقة والعذوبة، ولأن الغربة كوته بنيرانها مبكراً، فقد غلب عليه طابع الحنين، وبهدوء قديس، يطالعك بعينين طافحتين بالحزن، ومرارة السنين، فانعكس ذلك على جلّ آثاره الأدبية، كتب عن الإنسان المهمش، الذي يعيش على أعتاب الحياة، وكأنه يصور ذاته، رصد أصدقائه، فكتب عنهم شعراً يفيض بالحب، وفي رحلته الثانية إلى السعودية، التي عاش فيها سنتين، برفقة أخيه "شكري" الذي قضى هناك في حادث أليم، رثاه "الخلوف" في قصيدة من أجمل القصائد، كما تلّمس بها فاجعته بغربته الأخيرة».

"حمدو خلوف" أيها الراحل بشموخ.. شهقات القلب ترثيك.. والروح تضج بصراخها.. علّها توقظ الأحاسيس الغافلة، فتهزّ سكونها، وتدفعها لفتح عينيها على الإثم الذي ارتكبته بحقك. جائرة هي المدن، حين تسهم في رحيلنا عنها، وحين تأبى التشبث بما تبقى من أوصالنا.. وحين تغمض عينيها عن الانتهاكات المتلاحقة لأرواحنا..

هذا ما ذكره لموقع eRaqqa بتاريخ (10/10/2009) الأديب "محمد جاسم الحميدي"، في معرض حديثه عن تجربة الشاعر الراحل "حمدو خلوف"، وأهميته كشاعر في المشهد الثقافي الرقي والسوري.

غلاف ديوان دعوة للسفر

جاءت أسرة الشاعر الراحل "حمدو خلوف" في بداية خمسينيات القرن العشرين من "بزاعة" إلى "الرقة"، للعمل في المجال الزراعي، بعد أن انسدت أمامهم سبل الرزق هناك، وفي عام /1955/ ولد شاعرنا "حمدو" في "الرقة"، وتضاربت الشهادات التي تحدد مكان مولده، فبطاقته الشخصية تقول إنه ولد في "بزاعة"، وهو مكان لا تثبته الحقائق، إذ يؤكد جلّ معارفه، بأنه وارد هكذا لأن أباه لم ينقل قيد العائلة إلى "الرقة"، والقول الثاني، يؤكد بأنه من مواليد "مستجد نكيب"، والثابت ما تؤكده زوجته بأنه من مواليد قرية "الكالطة"، شمال "الرقة" بنحو /27/كم.

وبعد عدّة سنوات من مولده، واستقرار أحوال أسرته قليلاً، ما لبثت أن طلبت الرحيل إلى ديارها، لكن الفتى ابن السنوات العشر، أبى أن يغادر "الرقة" فبقي مع أخيه "شكري"، يغالب الفقر، ويتحدى صروف الدهر.

غلاف ديوان ظل المسافات

درس المراحل الابتدائية والإعدادية في مدارس "الرقة"، ثم الثانوية في ثانوية "الرشيد"، وبدأ العمل معلماً وكيلاً في مدارس "الرافقة"، و"الرشيد"، و"الوحدة العربية"، بعد نيله الشهادة الثانوية، والتحاقه بجامعة "حلب"، ليدرس اللغة العربية وآدابها، ونال شهادة الإجازة في اللغة العربية، عام /1979/، ليعيّن معاوناً لمدير ثانوية "زكي الأرسوزي"، ومن ثم مديراً لها.

وكان قد أعاد تقديم الثانوية، ونالها بامتياز، ليلتحق بدراسة الحقوق في جامعة "حلب"، وليتخرج منها في عام /1996/، حاملاً الإجازة الثانية في الحقوق، بعد اللغة العربية، وسافر إلى اليمن في عام /1993/ معاراً للتدريس فيها، لكنه قطع الإعارة بعد سنتين، وعاد إلى "الرقة"، ثم غادرها إلى السعودية، وهناك عمل مدرساً لمدة سنتين، ثم قفل راجعاً إلى "الرقة" ليمارس مهنة التدريس في ثانوية "عمار بن ياسر" لمدة سنة، ثم مديراً لثانوية "بلقيس"، ثم مديراً لمدرسة "أبي فراس الحمداني".

غلاف ديوان ظل المسافات

ولقناعته الشديدة بالعلم، ووظيفة المعلم ورسالته، لم يتجه إلى التعليم الخاص، والدروس الخصوصية، ما جعله في فقر وعوز شديد، وبعد شرائه بيت العمر، اضطر للسفر للمرة الثالثة إلى دولة الإمارات، وبعد حصوله على العقد بأيام قليلة، أصيب باحتشاء قلبي غادر، فارق على إثره الحياة بتاريخ (8/9/2000)، ونقل جثمانه إلى سورية، ووري الثرى في مقبرة العائلة في بلدة "بزاعة" وسط حشود غفيرة من أهله وأصدقائه، ولفيف من أدباء "الرقة"، ورفاق دربه وأصدقائه.

نشر "خلوف" أول دواوينه في عام /1987/، وحمل عنوان "دعوة للسفر"، ثم ديوان بعنوان "سلامات" عام /1989/، وفي عام /1997/ أصدر ديوانه الثالث، وحمل عنوان "ظل المسافات"، وفي نفس العام أصدر ديوانه الرابع، الذي حمل عنوان "الليل وأسرار الشواطئ"، وهو ديوان في الشعر الشعبي.

وترك الراحل مخطوطة شعرية بعنوان "غزالة الفرات"، كانت معدّة للطباعة قبيل رحيله، وكتاب عن الأمثال الشعبية الفراتية، مازال مخطوطاً، وهناك محاولة لم تكتمل عن تاريخ منطقة الفرات، وعشائرها، والذين سكنوا فيها.

تميز شعر "حمدو خلوف" بخصوصية تناول المفردة اليومية، والمهمشين في المجتمع، وبرز المكان، المتجلي بالفرات، وأهله، حاضراً بقوة في كتاباته الشعرية، ولعلّ قصيدته "شكري يكتب أحزانه ويرحل"، التي يرثي فيها أخاه، الذي قضى في حادث سير مروع في مدينة "سكاكا" السعودية، تعبر أجل تعبير عن قدرته في تناول اليومي، إضافة لاستشرافه المستقبل في قراءة رثائه شخصياً، وكأن لسان حاله ينطق بالفاجعة التي ستلم به لاحقاً في دولة الإمارات، وهو وحيد هناك، يتقبل قدره بقلبه الموجوع، فيغيّبه عنّا، وليظل حاضراً في وجداننا وقلوبنا، ويقول في القصيدة:

كنت تأتي المحطات/ مثقلاً بالخطا والهموم

تنفث من علبة واحدة/ تبغك الوطني الرخيص

في اليوم الرابع من عبد الأضحى الماضي/ يسألني القلب:

من سرق العمر الوردي؟/ من أقفل هذي الأبواب؟

من أحضر أسماء الله الحسنى؟/ من يعبر في هذا الوقت

المتأخر أرصفة الطرقات؟/.....

شكري أيها الحالم كيف انطفأت/ في عيونك الأمنيات

وأنت الذي أتعبتك القرى والدروب البعيدة، والثرثرات الكئيبة

....

بقيت وحيداً/ فكيف أقسّم حزني وحلمي؟

وكيف أشتت حزني؟/ وكيف أوزع ما قد تركت من الذكريات؟

كيف أواجه ما قد جمعت من الأصدقاء؟/ ماذا أحدثهم؟

وقلبي يمضي بعيداً.. بعيداً/ صديقي لعينيك آتي غداً

ها.... إنني أحترق.

وفي رثائه، يقول الأديب "صبحي دسوقي: «ولا أدري لماذا أبادر إلى تحسس أجزائي حين أسمع برحيل صاعق لصديق أو رفيق، فيتعاظم الألم وتنز المسامات أنينها، الوجع يكبر، والفاجعة تتطاول، لتظلل أيامنا المتبقية.

وسؤال يشهق من عمق الجراح، لماذا قدر الأديب والفنان أن يرحل مبكراً؟ هل لأن أحاسيسه المتعاظمة تقربه من كومة التراب، أم أن مشاعره المتقدة، وعدم قدرته على تغيير الواقع يسارع في اقتراب نهايته؟

منذ فترة ليست بالطويلة، قبيل سفرك بأيام زرتني لتودعني، قبل حزمك الحقائب مغادراً إلى الإمارات، طال الحديث بيننا، ومن خلال لهفتك إلى السفر، وتوقك إلى التخلص من ديونك المتراكمة، وفرحتك بالانتقال إلى منزلك الجديد، رنّت مقولتك أليمة، وكنَّا نكررها (لا أحد يضمن عمره)، لكنك قلتها بحزن وأسى، وقتها تجاوزناها بآلية، وتحدثت عن مشاريعك القادمة.

ودعتك فرحاً بسعيك للتخلص من الضائقة المادية، التي تحاصرك، متمنياً لك النجاح في عملك.

لكن نبأ رحيلك فاجأني، وما صدّقت الخبر، ورحت أدور لساعات في الشوارع دون أن أجرؤ على الاستفسار من أحد عن صحة الخبر، إلى أن وقفت مذهولاً أمام ورقة نعيك من قبل نقابة المعلمين، وتأكدت من الحقيقة الجارحة، وما غالبت دموعي، تركت لك حرية الانسياح في الشوارع إذ طالما أحبتك وأحببتها، وكان قدرك أن تموت بعيداً عنها».

ويختتم "الدسوقي" رثائيته بقوله: «"حمدو خلوف" أيها الراحل بشموخ.. شهقات القلب ترثيك.. والروح تضج بصراخها.. علّها توقظ الأحاسيس الغافلة، فتهزّ سكونها، وتدفعها لفتح عينيها على الإثم الذي ارتكبته بحقك.

جائرة هي المدن، حين تسهم في رحيلنا عنها، وحين تأبى التشبث بما تبقى من أوصالنا.. وحين تغمض عينيها عن الانتهاكات المتلاحقة لأرواحنا..».

يذكر أن الراحل "حمدو خلوف" ترك وراءه ثلاثة أولاد وثلاث بنات، أكبرهم "نور" وتعمل معلمة، و"أحمد" يدرس في السنة الأولى في كلية العلوم، جامعة "حلب".