«بقيت صلات الشيخ "طاهر النعساني" مع "الرقة" وأهلها، خاصةً بعد نقله إلى "حلب"، وقد زارها عام /1959/م، في شهر نيسان لتقديم كتابه هديةً لها، كما زار "الرقة" عام /1961/م، للتعزية في وفاة "أحمد عبيد آغا الكعكه جي"، وهي سنة وفاته، حيث توفي في "حلب" عن عمر يناهز /74/عاماً».

هكذا يبدأ الأستاذ الباحث "حمصي فرحان الحمادة"، تقديمه لشخصية الشيخ "طاهر النعساني"، الذي كان ذات يوم قائماً لمقام "الرقة"، لموقع eRaqqa بتاريخ (28/12/2008)م، ويكمل حديثه عن شخصية "النعساني" بالقول: «كان الرجل عملياً، وترك أثراً لا ينسى عند أهل "الرقة"، فلقد قام بأعمال جليلة، بحكم منصبه كقائم مقام، إذ أنه كان يتفقد آثارها مع صديقه الدائم، "أحمد حاج عبد الله"، كما قام بتدعيم باب "بغداد" من الجهة الشرقية، والجنوبية، وأصلح قناطر الجامع العتيق الإحدى عشر، وكشف كلمات حجارة الأساس التي كتبها "نور الدين الشهيد"، عندما قام بإصلاح الجامع عام /561/هـ، وقام بإصلاح مئذنته، ومنع الجنود الفرنسيين من هدم البرج الواقع خلف باب "بغداد"، ومن أعماله الجليلة أيضاً، نقده السلطة الفرنسية لعدم محافظتها وصيانتها الآثار في "الرقة"، كما كشف عن قبر والي "الرقة"، "سعد الدين باشا العظم"، ومن أعماله التي لن ينساها أهل "الرقة"، مطالبته ببناء جسر على نهر الفرات، وكان قد سبقه بالمطالبة بذلك الشيخ "حسين العليان" رحمه الله، ولن ينسى أهل "البليخ"، أنه قسم مياهه بينهم وقضى على كل النزاعات التي كانت تنشأ نتيجةً لذلك، حيث تم التوقيع على قرار التقسيم بحضور محافظ "دير الزور"، وبعض المسؤولين الفرنسيين».

كان حافظاً للقرآن الكريم، رفيقاً للكتاب في حله وترحاله، نشر مئات المقالات الأدبية، والسياسية، والاجتماعية، نشرت في مجلات "المقتطف"، و"الهلال"، و"العرفان"، "الوعي"، وخلف كثيراً من الأسفار نذكر منها تحقيقه لكتاب تاريخ "الرقة" لمؤلفه "القشيري الحرَّاني"، كما صدر له بعد وفاته ديوان ضم أشعاره

وعن سبب توليه قائم مقام في "الرقة"، يقول "الحمادة": «كان له دور مشرف في مساعدة القائمة الوطنية، ضد قائمة الموالين للاستعمار، في انتخابات عام /1932/م، وكشف هذا الدور فتم نقله إلى "الرقة"، وذلك منذ عام /1934/م، حتى عام /1936/م، وتذكر ابنته "سعاد" ذلك فتقول: (نقل والدي إلى "الرقة"، وتأثر لنقله حيث كنا صغاراً، كما تأثر لفراق أهله، حيث بعث لهم برسالة مطلعها:

الشيخ طاهر في إحدى المناسبات

/بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنُ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ/

ولكنه بعد أن تعرف إلى أهل "الرقة" جيداً، ومنهم آل "الكعكه جي"، و"العجيلي"، و"العويد"، آنس "الرقة"، حيث قدم له رئيس البلدية "عبيد آغا الكعكه جي" بيته، وكان في منتصف البلدة، وبعد مدة عاد إلى "حماة" ليأخذنا إلى "الرقة"، وعند دخولنا البلدة كان الفرات يفصلها عن طريق السفر، ولا يستطاع الدخول إليها، وعند وصولنا كانت السفينة العسكرية تنتظرنا)، وتوثقت علاقة الرجل بأهل المدينة، لما عرف عنه من بساطة، وسماحة في التعامل، وكان البيت الذي أسكنه "عبيد آغا" به يقع إلى الشرق من حديقة المتحف الحالية، حيث كانت الأرض الجنوبية للحوش ترش بالماء، لتوضع الكراسي خارجاً، وتنصب "النراجيل"، وتدار القهوة المرة، ويجلس الشيخ "طاهر"، حاكم "الرقة" مع جميع ضيوفه كأنه واحد منهم، وبعد انتهاء دوامه الرسمي، كان يلبس ثياباً عاديةً، عبارة عن جبة وطربوش، ومستلزماتها، وكان يصلي جميع أوقاته في الجامع الحميدي، ويتولى الخطابة والإمامة في أغلب أيام الجمعة، وبعد صلاة العشاء كان يسهر في دواوين أهل "الرقة" ومضافاتهم».

الشيخ مع أحفاده.

ولشدة ولعه باللغة العربية، كان يتحدثها حتى مع أهل بيته، وفي المقهى، وفي الشارع، وكان نتيجةً لذلك تحدث مفارقات طريفة، وعن تلك الطرائف يقول "الحمادة": «كثيرة هي الحوادث الطريفة في حياة الشيخ، التي تتعلق بتكلمه الفصحى، فلقد قال مرةً لولده "زهير": يا "زهير"، الناس تمشي على عجل وأنت تمشي سبهللا، ولم يفهم "زهير" معنى كلمة سبهللا، حتى شرحها له والده، بأنها تعني المشي على مهل، ولا شيء معه، وذات مرة، عندما كان مسؤولاً عن صندوق الانتخابات في جامع "النوري"، عام /1931/م، وأميناً على الصندوق مع صديقه "محمد عثمان الكيلاني"، المعروف بقوة بنيته، فتعرضوا وقتها للضرب من قبل أعوان الاستعمار، الذين حاولوا أخذ الصندوق، والتلاعب به، ولكن "الكيلاني" تصدى لهم بعزيمة، وكان الشيخ "طاهر"، يشد عزيمته بقوله: اضربهم يا "عثمان"، اضربهم يا حفيد "علي"، عليك بهم يا مفتول الساعدين، وحين صعد الشيخ إلى سطح المسجد، وقد امتلأ وجهه بالدم، وجد أمامه "أبا السعود الكيلاني"، مختبئاً خلف قبة المسجد، فقال له بحرقة: أنت هنا يا أبا السعود، ونحن أكلناها قياماً وقعودا؟! فقال له أبو السعود: لفها شيخي هلق وقت الكلام بالنحوي! مانك شايف الموت قدامنا»، أما في "الرقة" فيروي لنا الأستاذ "عبد الفتاح الصطاف"، عن الشيخ فيقول: «مع ما عرف به "الشيخ طاهر" من صرامة وتدين، فإنَّ المقهى كان المكان الأخير الذي يذهب إليه، إذ كان له موعد مع شخص ما، وكان اللقاء في مقهى السرايا، فدخل المقهى برفقة "أحمد الحاج عبد الله"، وصاح الشيخ مشيراً للنادل: يا غلام أحضر لي كأس ماء زلال مثلج، فلما عرف الغلام أنَّ الكلام موجه إليه، جاء الشيخ مسرعاً، وقال له: (يا بيك سولف بالعربي، والله ما أعرف فرنسي)، فابتسم الشيخ، وقام رفيقه بشرح طلبه للغلام، وكان لشدة ولعه بالعربية الفصحى، يطلب من ابنته "صبيحة" ذات الصوت الجميل، أن تغني له قصيدة "أبي فراس الحمداني"،

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر».

الباحث حمصي الحمادة

ويختتم "الحمادة" حديثه لنا عن شخصية الشيخ "طاهر النعساني"، فيقول متحدثاً عن ثقافته، وآثاره: «كان حافظاً للقرآن الكريم، رفيقاً للكتاب في حله وترحاله، نشر مئات المقالات الأدبية، والسياسية، والاجتماعية، نشرت في مجلات "المقتطف"، و"الهلال"، و"العرفان"، "الوعي"، وخلف كثيراً من الأسفار نذكر منها تحقيقه لكتاب تاريخ "الرقة" لمؤلفه "القشيري الحرَّاني"، كما صدر له بعد وفاته ديوان ضم أشعاره».

ويذكر أن الشيخ "طاهر النعساني"، ولد في حي "الباشورة" في مدينة "حماة"، عام /1887/م، أولاده من البنات، "صبحية"، "سلمى"، "سعاد"، ومن الذكور، "محمد"، زهير"، زياد"، نشأ في بيت علم وأدب، فكان واسع المعرفة والاطلاع، كان وطنياً حتى النخاع، توفي في عام /1961/م، في "حلب"، ثم نقل جثمانه إلى مدينة "حماة"، وقد كتب الشاعر الفلسطيني "محمد العدناني" على قبره هذه الأبيات:

"طاهر النعسان يثوي ها هنا في حضن تربه

كان ذا قـلـب كبير لـيس في الدنيا كقلبه

قد قضى العمر تقياً ناشـداً طـاعة ربه.