يرتكز تاريخ البداوة العربية على قوى عديدة سببت حركة التجوال الكبيرة التي شهدتها الجزيرة العربية بتنقل قبائلها، فمن الظروف الطبيعية التي كانت خارجة عن سيطرة تلك العشائر، مروراً بالتحولات السياسية التي كانت تشهدها المنطقة، ويضاف لما سبق سبب آخر ليس أقل شأناً، يتمثل باستقرار الحكومات في المناطق الزراعية المجاورة لهم، نتيجة لذلك هاجرت كبرى قبائل الجزيرة باتجاه بلاد الشام وبلاد الرافدين ووصل بعضها في بحثه عن مناطق استقرار جديدة إلى بلاد فارس، وكانت قبيلة "الفدعان" من القبائل التي هاجرت، واستطاعت خلال هجرتها الكبيرة الحصول على مراعٍ حقيقية في المنطقة إلى الشرق من "حلب" و"حماة"، ومر حوالي /100/ عام من استقرارها هناك دون حدوث أي مشاكل حقيقية تستدعي من القبيلة تغيير مكان رعيها، ولكن نموها السكاني المتزايد بمرور الزمن، وحرب الأخوة التي نشبت بين المجموعتين التي ينقسم إليها الفدعان، أي "الوْلْدْ" و"الخرصة"، جعلت من الهجرة الثانية واقعاً لابد منه، حيث توجهت "الخرصة" إلى داخل بلاد الرافدين، ثم ما لبثت "الولد" أن لحقت بها بنهاية القرن التاسع عشر، فدانت لهم بعض قبائل المنطقة الصغيرة آنذاك على "البليخ" بدفع الأتاوة، بينما حافظت بعض القبائل القوية كقبيلة "الجيس" (قيس) في "حَّران" على استقلاليتها.

اتخذ "الوْلْد" من منطقة "عين عيسى" الواقعة إلى الغرب من "البليخ" الذي يشكل مجراه حدودهم الشرقية الآمنة، بينما تخطى أبناء عمومتهم "الخرصة" البليخ" ووصلوا إلى الخابور تقريباً، ومن أعرق بيوتات "الوْلْد" ولد الفارس الشيخ "حاكم بن مهيد"، شيخ قبيلة "الفدعان"، وأشهر رجالاتهم الذين تركوا أبلغ الأثر على مرحلة مهمة من تاريخ هذه المنطقة، فكان شيخاً للقبيلة، ورجل دولةٍ وعشيرة، وقف بوجه فرنسا وناهضها ككل الرجال الأحرار في تلك الفترة، وللوقوف على شخصية هذا الرجل الفذّة، التقى موقع eRaqqa بتاريخ (15/9/2008) الباحث "حمصي فرحان الحمادة" الذي حدثنا عن نسبه ونشأته فقال: «هو "حاكم" ـ بلفظ الكاف جيماً فارسية، ويلفظه البدو "حاتسم"ـ ابن فاضل بن صالح بن جغيثم بن تركي بن مجحم بن مانع بن راشد بن مناع بن مهيد، المولود في العام /1885/م، وينحدر المهيد من أصول تتمتع بقدر عظيم من الاحترام والمنعة، ويدينون بقوتهم للشيخ "جدعان بن نايف" الذي كان قائداً حربياً بالفطرة، الذي بلغ أوج قوته في سبعينيات القرن التاسع عشر، فصار قائمقام العُربان في "حلب" ونال "البيكاوية" بكل مستحقاتها، وبعد مقتله بأحد غزواته واصل ابنه "تركي" مشواره، وفي بيت "تركي" نشأ "حاكم" يتيماً بعد وفاة والده، وترعرع في بيت ابن عمه، وزعيم عشيرته، "تركي بن جدعان"، ولا شك أن هاجس اليتم قد ارقَّهُ، ولكن نشأته في هذا البيت عوضته كثيراً عن ذاك الحرمان، فتعلم على يديه كيف يكون فارساً وقائداً، ولكن الموت لم يمهل "تركي"، حيث قتل في أحد معارك قبيلته مع قبيلة "الرولة"، وخلَّف وراءه ولدين صغيرين هما "مجحم" و"محمد"».

يذكر لنا "أوبنهايم" بكتابه "البدو" بأنه عندما زار "حاكم بن مهيد" في "عين عيسى"، كان الرجل متزوجاً بابنة "فارس الجربا" شيخ "شمر"، وهي أُمُّ ولده "خليل" المشهور بالكرم الحاتمي، بعد أن طلَّق زوجتين سابقتين كانتا ابنتين لعمه "تركي"، إحداهما "حربة بنت تركي" التي أنجبت له ولده "دحَّام" فعاشت كلا الأختين بعد طلاقهما في خيام أخوتهما، وأخرى أنجبت ولده "اسماعيل" الذي قتل في أحد معارك القبيلة عام /1938/م، وكان رجلاً متوسط القامة، له لحية سوداء مدببة طليقة، نحيف الجسم مع انحناءة خفيفة في الظهر، كيِّس، ذكي، وحكيم، إنه يمثل القائد السياسي بحق، أما ابن عمه "مجحم" فيعطي انطباعاً بأنه بارد الأعصاب إلى أبعد الحدود، لا يشارك في الحروب إلا قليلاً، ورغم ذلك يرد اسمه كثيراً بتاريخ القبيلة، أما شقيق "مجحم" الأصغر "محمد" فمظهره يدل على أنه رجل حرب حقيقي

ويتابع "الحُمَّادة" قائلاً: «عند مقتل "تركي" كان عمر "حاكم" /19/ عاماً، وحتى لا يبقى "الفدعان" دون شيخ رأت أُمُّ "تركي" جدة الصغيرين "مجحم" و"محمد" اللذين كانا لا يستطيعان القيام بواجب المشيخة، أن تقيم لهما وصياً يتولى رئاسة "الفدعان" ريثما يكبران، فوقع الاختيار على ابن عمهما "حاكم"، وكانت صاحبة حكمة، فأخذت الصغيرين برفقة "حاكم" إلى والي "حلب" آنذاك، وطلبت منه أن يقلد "حاكم" المشيخة ويأخذ منه تعهداً بردِّها ريثما يبلغ الصغيران أشدهما ففعل الوالي ما طلبته وتولى "حاكم" المشيخة سنيناً عديدة برضا الحكومة والقبيلة على حدٍّ سواء، وكانت العلاقة بينه وبين ابني عمه "مجحم" و"محمد" الوريثين الشرعيين طيبة للغاية، ويذكر المؤرخ "نورمان لويس" موضحاً مدى مكانته وسعة سيطرته على المنطقة، بأن تجار "حلب" و"الموصل" و"بغداد" كانوا يدفعون "لحاكم" أتاوة لقاء خفر قوافلهم وحمايتها من لصوص البادية، وقُطَّاع طرقها».

صورة نادرة للشيخ "حاكم بن مهيد"

أما عن طباعه التي جعلت ذكراه راسخة بأذهان الناس في هذه المنطقة، فيقول "الحمَّادة": «كان "حاكم" ذا شخصية ذكية وطموحة، تؤمن بمبادئ سامية، حليم في تصريفه للأمور مما فرض هيبته على "الفدعان" و"البوشعبان" معاً، وبعد توليه إدارة القبيلة ازداد مع مرور الأيام حنكةً وخبرةً، حتى أصبح زعيماً يشار له بالبنان، محبوباً، محترماً، انضوت تحت لوائه العشائر الأخرى إعجاباً بسياسته ورجاحة عقله، وكان يجيد اللغة التركية، ونال رضا الدولة العثمانية التي خصصت له راتباً شهرياً، ومنحته رتبة (بيك) وأراضٍ زراعية على نهر "البليخ"، وصار يتعاطى الزراعة، فيقوم فلاحون من العشائر المتحضرة بزراعة تلك الأراضي له، وعند سقوط "إبراهيم باشا الملي" رئيس حلف "الملي القبلي" وفصائله المسلحة (الأفواج الحميدية)، الذي استطاع عند منعطف القرن العشرين، أن يقيم ضرباً من دولة في أعالي بلاد الرافدين، دانت لها معظم المنطقة، شكل "حاكم" متطوعة وأصبح حاكماً فعلياً للرقة، يلوذ به الفارون من نير السلطة، أو الخائفون من مطالبة الأهالي لهم بثأر أو ما شابه من الأمور التي تهدد الحياة، وكان ذا نزعة عربية محضة، فعندما قامت الثورة العربية بقيادة الشريف "حسين" في عام /1916/م، أيدها وابتهج كثيراً عندما ارتفع العلم العربي فوق دار السرايا، وذلك في (10/12/1918)، وشارك بالاحتفال الذي عُقد بهذه المناسبة، وقد أنعم عليه الشريف "حسين" حينها بلقب باشا».

وعن الحدث المفصلي الذي ذاع به صيت الرجل ليصل إلى كل الأراضي السورية، ويتجاوزها إلى الوطن العربي، يحدثنا ضيفنا قائلاً: «حدث ذلك عندما أعلن الجنرال "غورو" ضم "الرقة" إلى دولة "حلب"، فقام أهل "الرقة" بتشكيل حكومة وحدة وطنية يرأسها هو مع مجلس يضم وجهاء وشيوخ محافظة "الرقة"، ثم أنشأ بعدها جيشاً يتبع نظاماً خاصاً، هاجم فيه الفرنسيين باتجاه "حلب"، منسقاً ذلك مع الحركة الوطنية "بحلب"، وحرر عدة مناطق، محققاً انتصارات سريعة، جعلت اسمه يجلجل في سماء "سورية" والوطن العربي، وكبَّد الفرنسيين في البداية خسائر كبيرة جعلتهم يحاولون رشوته، ولكنه كان صاحب موقف وطني، فرفض العرض المغري وقال كلمته الشهيرة لهم (فلوس وناموس ما يصير)، واستمر زحفه باتجاه "حلب"، معتمداً على وعود الدولة التركية وبسالة مقاتليه، ولكن القوة العسكرية الجوية الغاشمة للفرنسيين، وتخاذل الأتراك عن مساعدته جعلت جيشه يتراجع بعد أن خاض حرباً غير متكافئة مع الفرنسيين، فدخلت القوات الفرنسية "الرقة" عابرةً نهر "الفرات" دون مقاومة، بقيادة الكولونيل "دي بفوار" بتاريخ (12/12/1921)، ومن ثم قام "حاكم" بتسريح جيشه بتاريخ (16/12/1921)، مصعوقاً بمعاهدة "أنقرة" بين الفرنسيين والأتراك، والتي تم بموجبها ترسيم الحدود الشمالية "لسوريا"، فغادر بعدها "الرقة" إلى منطقة تدعى "طوال العبا"، ثمَّ إلى "أورفه" التي رفض بها الهدايا الكثيرة من أموال وقرىً كاملة، مقدمة له من السلطة التركية التي خذلته بحربه مع الفرنسيين سابقاً، مفضلاً العودة إلى سورية، حيث حاكمه الفرنسيون محاكمة عسكرية بمدينة "حلب" بتهمة التمرد، ولكن ابن عمه "مجحم" الذي استلم مشيخة "الفدعان"، وكان على وفاق تام مع الفرنسيين توَّسط له عندهم فأفرجوا عنه، ليستقر بمنطقة من نواحي "الرقة" تدعى "عين عيسى"، وعاد ليمارس نشاطه القبلي يحيط به أفراد قبيلته الذين لم يبقوا تحت سلطة "مجحم"، ووقّع الاعتراف بالانتداب الفرنسي في (19/6/1922)، ومرض بذات الرئة حيث نقل إلى "حلب" وتوفي فيها بعد أسبوعين، وفي نفسه ما بها من كدر وغيظ على المستعمر وأعوانه، خلَّف من الأولاد "خليل" و "دحام" و"اسماعيل"، ودفن حسب اتفاق المؤرخين في "عين عيسى"».

صورة تجمع من اليمين "حاكم بن مهيد" وفي الوسط "محمد بن مهيد" وعلى اليسار "مجحم بن مهيد"

وعن صفاته الجسدية وحياته الأسرية يحدثنا الباحث "الحمادة" فيقول: «يذكر لنا "أوبنهايم" بكتابه "البدو" بأنه عندما زار "حاكم بن مهيد" في "عين عيسى"، كان الرجل متزوجاً بابنة "فارس الجربا" شيخ "شمر"، وهي أُمُّ ولده "خليل" المشهور بالكرم الحاتمي، بعد أن طلَّق زوجتين سابقتين كانتا ابنتين لعمه "تركي"، إحداهما "حربة بنت تركي" التي أنجبت له ولده "دحَّام" فعاشت كلا الأختين بعد طلاقهما في خيام أخوتهما، وأخرى أنجبت ولده "اسماعيل" الذي قتل في أحد معارك القبيلة عام /1938/م، وكان رجلاً متوسط القامة، له لحية سوداء مدببة طليقة، نحيف الجسم مع انحناءة خفيفة في الظهر، كيِّس، ذكي، وحكيم، إنه يمثل القائد السياسي بحق، أما ابن عمه "مجحم" فيعطي انطباعاً بأنه بارد الأعصاب إلى أبعد الحدود، لا يشارك في الحروب إلا قليلاً، ورغم ذلك يرد اسمه كثيراً بتاريخ القبيلة، أما شقيق "مجحم" الأصغر "محمد" فمظهره يدل على أنه رجل حرب حقيقي».

يذكر أنه وللمكانة التي احتلها "حاكم بن مهيد" بذاكرة الرقِّيين، فلقد دخلت سنة وفاته بالتقويم الرقي الشعبي، إذ يقال: (سِنةْ موتتْ "حاكم")، فلقد كان للرجل موقف وطني ضد "فرنسا"، وقام بإزعاجهم انطلاقاً من معسكره في "الرقة"، بينما كان ابن عمه "مجحم" يغطي القوات الفرنسية الضعيفة المرابطة في "دير الزور".

الباحث "حمصي فرحان الحمادة"