ولد الشيخ محمد الهويدي عام 1878م،و نشأ وترعرع في بيت من أعرق البيوتات العربية، وفيهم انتهت رئاسة عشائر العفادلة الزبيدية ، وهي من كبرى عشائر وادي الفرات.

الملخص: ولد الشيخ محمد الهويدي عام 1878م،و نشأ وترعرع في بيت من أعرق البيوتات العربية، وفيهم انتهت رئاسة عشائر العفادلة الزبيدية ، وهي من كبرى عشائر وادي الفرات.

كان والده شيخ العشيرة وأحد أبرز رجالات العفادلة، فيه كثير من التقى والورع. وعند دخول الفرنسيين الرقة، رفض أن يمد يده لهم، وحينما اضطر لذلك، لفَّ يده بكم ثوبه، وصافح الضابط الفرنسي، فسألوه لماذا فعلت هذا؟ أجاب: من واجبي كمسلم ألاّ أصافح عدوي. وكعادة العرب، أولم للفرنسيين وليمة كبيرة، لكنه أبى على نفسه وعلى أفراد عشيرته، أن يمد أحد منهم يده إلى الصحون ليأكل، فرُميت الذبائح والأواني للكلاب..! وعرف بكرمه الحاتمي حتى قيل في أحد أسواق الرقة ،سوق هويدي، حيث يكسى الفقراء وأصحاب الحاجة على حسابه.

هكذا تربى الشبل في عرين يحفل بالإباء والتقوى، والكرم، وعلو الشأن، وطيب المحتد، وفي مجتمع مثل الرقة ،كان الجو العشائري يسيطر على أبنائها في زمن العثمانيين والفرنسيين، حيث تحل كل الأمور عن طريق العرف والعادات العشائرية، والعشائر آنذاك كالأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية، بمعنى أن كل فخذ من عشيرة يمثل اتجاهاً معيناً، لكنه يعتمد على العرق (القرابة)، فقبيلة البوشعبان تتألف من سبع عشائر، كل واحدة تنتمي إلى جذم من شعبان، وتمتد من غرب مدينة حلب إلى الشرق، مروراً بالرقة وما حولها على شاطئ الفرات وصولاً إلى معدان، وكانت هذه العشائر متناحرة في زمن الاحتلال، وبعد ظهور القبائل الضاعنة المتبدية في المنطقة كالفدعان وشمر وعنزة، برز محمد الهويدي الذي استطاع أن يوحد قبائل البوشعبان أمام غزو القبائل المتبدية، وهي الرسالة التي كرَّس حياته وجهوده لتأديتها، واستطاع في عام 1924 أن يتبوأ مركز شيخ البوشعبان قاطبة (شامية وجزيرة)، وهذا ما ذكره عباس العزاوي في كتابه عشائر العراق، فصل البوشعبان، وهو أحد أركان الصلح الذي تم بين قبيلتي شمر والعكيدات في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكانت ذروة نضاله ضد المستعمر الفرنسي وله معه مواقف مشهورة، منها مثلاً ما حدث في عام 1939 من فتنة بين العشائر البدوية والشعبانية (العفادلة) والتي غذَّاها الاستعمار، وقُتل من الطرفين العشرات، وتسمى يوم الخفية (موضع شرقي نهر البليخ)، فشكل الفرنسيون حملة للقبض على شقيقه جاسم الهويدي، باعتباره قائداً لجماعة العفادلة في القتال، فحدثت بينه وبين الفرنسيين مساجلات بعد اعتقال شقيقه، فقال: نحن أهل الوطن، وأبناؤه وسيبقى الوطن بعزته لنا، فنحن كهذا الزرع المستنبت في هذه الأرض ،لا يمكن اقتلاعنا، فلن نرحل عنها إلاّ على أجسادنا. واستطاع أخيراً أن يعقد صلحاً مع عشيرة عنزة، فشهد له الفرنسيون بالشجاعة والحزم والثبات على الحق، فقال عنه دانجليه (ضابط فرنسي): لولا هذا الرجل الشريف، لاستطعنا إخماد كل الفتن وأنواع التمرد التي تنشأ في هذه المنطقة، فقد أتعبنا كثيراً، وأنا أعترف بشهامته وشجاعته ووطنيته وسداد رأيه، وأكنُّ له كل الاحترام والتقدير.

وقال عنه أحد شعراء المنطقة:

وجاك محمد الثانـي فعايـل

دبير الشور لمَّام الرعيـة

حديد ونار بالميدان صايـل

أبو درويش مفتاح الخفيـة

طماها بنوب من كل الخصايل

ترك وكراد وشنان عنزية

وقيل فيه أيضاً:

اسـكت دنجليـه أنـت فرنجي

لبو درويش ما تصير ألو منجي

احنا زبيـد ومحمد فحلنا

جثيـر الزاد لي هبّـت بمرجي

شجاع ما يبيع الوطن باسمو

ولا تلـد الثنيـة بعدو مثجـي

وكان الشيخ محمد الهويدي رجلاً حاذقاً، ذكياً، عارفاً بطبائع النفوس، رغم ما عُرف عنه بأنه كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه مع ذلك كان أعلم الشيوخ في سورية وفي البلدان المجاورة بأخبار العرب وأيامهم، وأنسابهم وتقاليدهم وعاداتهم، وكان حجتهم وعارفتهم في حلِّ المشاكل والمعضلات وفضِّ النزاعات بين أفراد عشيرته والعشائر الأخرى، حتى قيل فيه لكثرة تجواله بين أفراد قبيلته بأنه لم ينم في بيته إلاَّ ربع عمره.

وكان الشيخ رحمه الله يشكو في أواخر أيامه ضعفاً في الكبد، فيختلف إلى مدينة حلب بين الفينة والأخرى لعلاج مرضه، فما إن يشعر بتحسن حتى يعود إلى ما كان عليه في إدارة شؤون عشيرته، وحل النزاعات بين العشائر الأخرى. فلما اشتد مرضه قبل أيام من موته، راح يردد قول الشاعر:

وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع

توفي الشيخ محمد الهويدي ليلة الأحد في 14 شباط من عام 1943، الموافق 9 صفر من عام 1362 هجرية، فنعته الأوساط الرسمية والشعبية، وقرأ أبناء الرقة وضيوفها كلمات التأبين على قبره، تذكر محاسنه ومناقبه.