"بلدك هو البلد الذي تُدفن فيه"، لا أعرف أين قرأت هذه العبارة، لكنها تستوقفني كثيراً حينما أقلّب كتب التاريخ، ومن خلالها استمد معرفتي الأولى بأن مدينة حمص سميت بلد ابن الوليد تيمناً بالقائد العربي الفذ "خالد بن الوليد"، الذي عاش أخريات أيامه فيها، ومات ودفن فيها، ووفاء من أبناء حمص لقائدنا العظيم، سموا مدينتهم ببلد ابن الوليد..

في الرقة ثانوية تحمل اسم بطلنا الشركسي الشهيد "جواد آنزور"، ابن الرقة، كما هو ابن الآنزورية التي تقع في أعالي الأرض، ابن الرقة لأنه دُفن فيها إثر استشهاده في تل العزيزيات على الجبهة السورية مع العدو الصهيوني، لذلك أليس حري بنا أن نخلد اسمه؟ أليس من حقه علينا أن نذكر مآثره؟.. لعمري إن إطلاق اسمه على مدرسة لا يكفي، فما قدمه عظيم، وهل هناك أغلى من الروح، وهي تُبذل رخيصة في سبيل الوطن؟

حكاية الشهيد البطل..ولد الشهيد المقدم جواد بك طالوستان آنزور عام 1901 في منطقة القفقاس، في منطقة الآنزورية، من أعمال مدينة "نالجيك" لأسرة نبيلة، تشتهر بفروسيتها، ويتجاوز نفوذها حدودها الإقليمية،هاجرت أسرته إلى الشام، وكان ما يزال طفلاً صغيراً، لم يتجاوز السادسة من عمره، واستقر بها المقام في مدينة الرقة، في عام 1906 التحق بالمدرسة الرشدية فيها لمدة سنتين تعلّم خلالها القراءة والكتابة، وتلاوة القرآن، وفي عام 1908 وفد عمه سليمان باشا آنزور أمير سلاح الفرسان ببغداد إلى الرقة، فتوسم بابن أخيه الشجاعة والنبل والنباهة والذكاء، فهاجر به إلى الآستانة، حيث التحق بالمدرسة الرشدية هناك، لكي يستكمل دراسته في عاصمة الدولة العثمانية، مركز العلم والفنون في الشرق آنذاك، فراح يثقف نفسه، ويطوّر أدواته، إلى أن تمكن من ناصية اللغة العربية، وتعلم التركية والفرنسية والروسية، وراح يقرأ بكل هذه اللغات العلوم المختلفة والفنون وكتب التاريخ الإسلامي والعالمي، فكان مثلاً للطالب النجيب المجد، فنجح بسني دراسته بتفوق.

في عام 1915 التحق بالكلية الحربية العثمانية الشاهنشاهية (مدرسة الفرسان)، التي تخرّج منها عظماء الدولة العثمانية وفرسانها، ومنهم عمه سليمان باشا آنزور، مثله الأعلى الذي تأثر بفروسيته وشجاعته، وفي ربيع 1918 علم بنبأ مرض والده في الرقة، فقطع دراسته، وعاد إليها، ولم يستطع أن يتخرج من الكلية برتبة ملازم ثان، لأنه لم يتقدم إلى الامتحان النهائي، فتخرج برتبة ملازم.

في عام 1923 تطوع في كوكبة الفرسان الشراكسة في بيروت برتبة ملازم، ولتميزه وشجاعته وفروسيته تولى قيادة الفرقة، لكن لم يطب له المقام هناك، فنُقل عام 1936 إلى قطنا بالقرب من دمشق، كمدرب في مدرسة تدريب الضباط، وصف الضباط، وكان خلال عمله مدرباً ناجحاً متحلياً بالشخصية العسكرية الآسرة، فكان موضع ثقة الجنود الذين تدربوا على يديه، فأحبوه بعد أن غرس في نفوسهم حب الوطن، وكان يعتبر ساحة التدريب صورة مصغرّة عن ساحة المعركة، وعلى المتعلمين الالتزام بالتعاليم العسكرية، وكسب خلال عمله محبة رؤسائه، فصار موضع احترامهم لصلابته وجلده، وجديته ودقته في تنفيذ الأوامر، كما كان له من الشجاعة والإقدام الحيز الأكبر في بروز شخصيته المؤثرة.

في عام 1945 أحيل إلى التقاعد وهو برتبة نقيب، وعاد إلى الرقة، حيث عمل مزارعاً في المنطقة القريبة من قلعة جعبر (غُمرت فيما بعد بمياه بحيرة الأسد)، وفي عام 1948 أستدعي للاحتياط العسكري، وذلك إثر اشتداد المعارك والقتال مع العدو الصهيوني، فودع أهله وأقاربه وخلانه، قائلاً: إما أن ننتصر أو أستشهد، وغادر الرقة إلى القنيطرة (مركز الكتيبة الشركسية)، واشترك في معظم المعارك التي خاضها الجيش السوري الشجاع، وأبلى بلاء حسناً، وأرادت القيادة العسكرية للجيش السوري تحرير تل العزيزيات قبل سريان الهدنة التي فرضها مجلس الأمن، وقبيل فجر 18/7/1948 استشهد جواد آنزور، بعد أن وصل جنوده أعالي التل، وأتم رفاق السلاح من المقاتلين والفدائيين والهجانة تطهير التل من الأعداء. فقيل فيه شعراً مؤثراً، يجسد معاني البطولة، وبذل النفس رخيصة في سبيل الوطن، ومنه:

بمهجتـه جـاد يومـاً جواد وما جـاد بالروح إلاّ الجواد

من الرقة انساب مثل الفرات قنيطـرة وثراهـا المـراد

وكرّ ثلاثـاً بقلـب شـجاع وفي آخر الأمر خرّ الجواد

ويقول الباحث علي السويحة: "بعد استشهاده حضر عساكر الرقة المرابطين في الجبهة إلى بلدته وبلدهم الرقة، فدُفن مع سيفه، فخلّد الأديب الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي ذكراه بمقالة وجدانية حملت اسم كتابه الشهير (السيف والتابوت)، وترجم الكتاب إلى الروسية، في مدينة أجداده الأشاوس نالجيك بالقفقاس".ويضيف السويحة: "آنزور تعني باللغة الشركسية البطل النبيل، وفي اللغة الفارسية بيت القوة، وبالتركية الأصعب، أما طالوستان: طِلا بالكسر تعني ذهب بالعربية المفرسة، وستان: مكان أو موضع، ويصبح معناها: منجم الذهب".

أوليس كلمة الجواد تعني باللغة العربية السخي والكريم؟ وهل من كريم أعلى مرتبة من الشهيد؟ فماذا لو كان الجواد شهيداً؟.. هذا هو جواد أنزور، فهل أوفيناه جزءاً يسيراً من حقه علينا؟