لا تنشأ المكتبات في أية حضارة، ما لم تكن قد بلغت مرحلة متقدمةً من النضج الفكري والحضاري يسمح لها بالعمل على حفظ تراثها ونقله إلى الأجيال التالية؛ وحضارة "أوغاريت" خير مثال على هذا...

في كثير من المواقع الحضارية السورية التي اكتشفت على امتداد القرن الماضي، وجدت مكتبات متكاملة غنية بمحتواها، وعنها يتحدث الأستاذ "عدنان سليمان" مدرس مادة "التاريخ" في ثانويات "بانياس" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 7 نيسان 2014، ويقول: «فكرة المكتبة بحد ذاتها وجدت على أرض المشرق العربي، إذ إن أقدم المكتبات المعروفة في العالم حتى الآن تقع بين "سورية" و"العراق" الحاليين، أي من "أوغاريت" على ساحل المتوسط إلى "أور" على شاطئ الخليج العربي، ومنها مكتبة "إيبلا" التي بلغ عدد الرقم فيها سبعة وعشرين ألف رقيم، و"أوغاريت" التي وصل عدد رقمها إلى قرابة العشرة آلاف، وفي "ماري" مكتبة القصر الملكي الثرية بمحتواها التجاري والأدبي، وهذا ما يدلنا على أن هذه الحضارة وصلت إلى مرحلة متطورة في منتوجها الثقافي والإبداعي، فيكفي أن تقرأ ملاحمها وأساطيرها لتقف على إبداع قل نظيره في العالم في تنوعه واستمرارية حضوره الأدبي والفكري والإنساني حتى اليوم».

من المكتبات المهمة أيضاً في أوغاريت مكتبة "القصر الملكي" وهو عهد الملك "نقماد الثاني"، الذي كان مؤلفاً من مئة غرفة، ووجد في هذا القصر عدداً كبيراً من الوثائق الدولية والقانونية وسجلات الإدارة والضرائب ولوائح تنظيم العمل، وقد كتبت أغلب وثائق "أوغاريت" في عهد هذا الملك، ويبدو أنها كانت تكتب وتقرأ ثم تحفظ شفيهاً ثم تستنسخ عدة مرات، وفي هذه الفكرة بحد ذاتها عبقرية حمت هذه النصوص المكتوبة على ألواح طينية سريعة التهشم من الضياع والفقدان

إن معظم الرقم المكتوبة المكتشفة في "أوغاريت" كانت على شكل مجموعات، كما ذكر ذلك الراحل "جبرائيل سعادة" في دراسته "الحياة الثقافية والتعليم في أوغاريت"، ويقول: «كل مجموعة تؤلف إما مكتبة أو ديواناً للأرشيف (أي أضابير)، والمكتبة إما أن تكون تابعة لمؤسسة دينية أو لأحد الأفراد، وقد تم حتى الآن اكتشاف عدة مكتبات هي: مكتبة الكاهن الأكبر (إيلو ملكانو)، ومكتبتان لكاهن آخر في الحي الممتد جنوب "الأكروبول"، ومكتبة النصوص الأدبية في الخندق الجنوبي، وستة دواوين للأضابير في القصر الملكي، وديوان للأضابير في القصر الجنوبي، كما عثر في الحي الفخم الممتد شرقي القصر الملكي على مكتبتين خاصتين وعلى ديوان أضابير خاص».

صورة متخيلة للحي الراقي في أوغاريت - خاص إي سيريا

ويذكر الباحث "قاسم الشواف" في كتابه "أخبار أوغاريتية وموسيقا من أوغاريت" أن مكتبة "الحي الراقي" كانت في منزل أحد وجهاء "أوغاريت" المدعو "ربانو" (أو ربعانو أو رفانو)، وهو شخص على ما يبدو ذاع صيته في المدينة كما الشخصيات القيادية فيها، وعنها يقول: «هي مكتبة مرتبة ومنسقةً كأي مكتبة حديثة، كل قسم حسب مواضيعه، وقد ضمت هذه المكتبة مجموعة مهمة من النصوص الفخارية، زادت على مئتي لوح مكتوبة بالأكادية، احتوت وثائق متنوعة (يمكن أن نسميها كتباً ببساطة)، منها مثلاً: لوحة كبيرة على غاية في الأهمية، تبدو أنها جزء من كتاب مدرسي تتضمن تعداداً لأسماء أنواع الأسماك والنباتات والطيور التي كانت معروفة في المنطقة في ذلك الوقت (أي بلغتنا الراهنة قاموساً وقد سبق لنا تناول هذا الموضوع في مادة خاصة في المدونة)، وكذلك وجدت في هذه المكتبة بعض أنواع الأحجار والأوزان والأوعية والمنسوجات المستعملة في المدينة، كما وجدت لائحة بأسماء آلهة "أوغاريت" مع ما يقابلها من آلهة عند البابليين، وعدة لوحات نقشت عليها التعليمات الواجب اتباعها عند معالجة الخيول المريضة، كما احتوت هذه المكتبة العظيمة نصوصاً فيها بعض المعالجات الدوائية للمرضى، منها أسماء لمقادير ينبغي تناولها مجتمعة بعد طحنها وتسخينها، وقد ورد في بعضها ذكر الصداع والأنفلونزا، والتقيؤ، والزكام والدوار، وأمراض الجلد، والأسنان واللثة، والبطن، وهناك مرض سمي "شيماتو"، والشيطان الأحمر، ومختلف أمراض العيون».

ويتابع: «أما المكتبة التي عثر عليها في الجزء الجنوبي من المدينة، فقد احتوت على نسخ من الملاحم البابلية الكلاسيكية، وهي النصوص التي تداولها مثقفو ذلك العصر وقتها، من بينها مقطع من ملحمة "جلجامش"، و"إينوما إيليش"، كذلك مقاطع من كتب الحكمة، ومنها قصة "الحكمة المتشائمة"، ومن أبرزها نصائح أب لابنه (قيل إنها نسخ من نصائح "لقمان" لابنه في دراسات حديثة)، وفي نفس الحي عثر على مكتبة الكاهن "ملكانو"، من عهد الملك "نقماد الثاني" قرابة العام 1365، وقد تضمنت بعض الرقم مواضيع دينية تهم الناس في ذلك الزمان؛ مثل أجوبة الكاهن عن أسئلة طرحها عليه أناس يريدون منه معرفة المستقبل؛ (منها الأكباد الطينة وقد سبق لنا في المدونة عرض مادة مفصلة عنها)، كذلك عثر على عدد وفير من النصوص الأدبية التي تم تداولها في مجتمع المدينة، منها ملحمة "أقهات بن دانئيل"، ومنها قصة "العادل المعذب" التي هي أساس قصة "أيوب" التوراتي، ومنها أيضاً قصيدة جميلة جداً يصف فيها كاتبها "أمه المثالية"، وهي تقع في أكثر من مئة بيت شعري».

كلود شيفر واكتشاف المكتبة في الخندق الجنوبي

ويضيف: «من المكتبات المهمة أيضاً في أوغاريت مكتبة "القصر الملكي" وهو عهد الملك "نقماد الثاني"، الذي كان مؤلفاً من مئة غرفة، ووجد في هذا القصر عدداً كبيراً من الوثائق الدولية والقانونية وسجلات الإدارة والضرائب ولوائح تنظيم العمل، وقد كتبت أغلب وثائق "أوغاريت" في عهد هذا الملك، ويبدو أنها كانت تكتب وتقرأ ثم تحفظ شفيهاً ثم تستنسخ عدة مرات، وفي هذه الفكرة بحد ذاتها عبقرية حمت هذه النصوص المكتوبة على ألواح طينية سريعة التهشم من الضياع والفقدان».

وفي تفسير وجود المكتبات وأهميتها، يذكر الباحث "جان نوغايرول" في مجلة "الحوليات الأثرية السورية" إن هذا النوع من الوثائق المكتشفة في هذه المكتبات يثير الاهتمام من ناحيتين، ويقول: «من وجهة النظر المحلية فهي تكشف النقاب عن المصادر التي استقت منها "أوغاريت" مدنيتها، ومن جهة ثانية ترجع إلى حوالي العام 1300ق.م، أي إلى عصر لم تقدم فيه "بلاد الرافدين" إلا بعض الوثائق الكتابية القليلة، وهي لا توجد إلا على شكل ترجمات ترجع إلى العهد "صارغون" الأكادي، إي إلى ما بعد 600 عام في القرن السابع قبل الميلاد، وقد استخدمت في كتابة هذه الرقم الحروف المسمارية، وكتبت بألسنة عديدة، منها: الأكادية، والحورية، والسومرية، والهيروغليفية، والقبرصية، والأكثر انتشاراً كانت الأوغاريتية، باعتبارها اللغة المحلية التي ابتدعها أحد عباقرة المدينة، إضافة إلى الأكادية التي كانت لغة المراسلات الدولية وقتها».

أول أبجدية اكتشفت في أوغاريت