نشأت الترجمة في "أوغاريت" نتيجة الحاجة إليها في التجارة التي اشتهرت بها المدينة أولاً، واستجابة للفعل الثقافي والاجتماعي ثانياً، ذاك الذي يهتم بفهم الآخر والتواصل معه لإنتاج حضارة خلدها الزمان...

فقد توسعت مملكة "أوغاريت" بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر قبل الميلاد، من بلدة صغيرة إلى مملكة يغطي حكمها أغلب مدن الساحل السوري، وتوسعت تجارتها لتصل إلى أغلب ضفاف المتوسط وعرفت أسماء سفن عديدة لديها، وحسب سجلات القصر الملكي بلغ عددها فوق مئتي سفينة في حدود الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وظهرت الحاجة ماسةً إلى تعلم لهجات ولغات الشعوب التي تتاجر معها والتي دخلت معها في تحالفات سياسية واقتصادية.

كتب العمود الأول بالسومرية، التي لما تعد تستعمل منذ القرنين الخامس والرابع عشر قبل الميلاد إلا في أوساط نخبة الكهنة، والثاني والرابع بالبابلية (الأكادية كما عرفت لاحقاً)، التي هي لغة الدبلوماسية وقتها، وعمودان آخران فيهما الكلمات الأوغاريتية

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 2 آذار 2014 الباحثة "جيهان محمد" - تعد حالياً لرسالة "الدكتوراه" حول "العلاقات الحثية - الأوغاريتية"، وتحدثت عن نصوص "أوغاريت" وغيرها من الألواح الطينية في مختلف الأماكن الأثرية، وتقول: «إن المدينة أقامت علاقات طيبة مع آسيا الصغرى ودول بحر إيجة، منذ النصف الأول من الألف الثانية قبل الميلاد، وإن أشخاصاً من هذه الدول جاؤوا إليها للقيام بعقد الصفقات التجارية وبناء علاقات واسعة وقوية، لدرجة أن الأمر تطلب وجود مترجمين محترفين يعملون مع التجار لتسهيل مهامهم، وتتحدث وثائق عديدة جاءتنا من الأرشيف الملكي الخاص بالمدينة، عن دورها الكبير في تزويد "آسيا الصغرى" بالمواد الغذائية، وهؤلاء المترجمون القادمين من مناطق الجوار كان عليهم بحكم الضرورة تعلم اللغة والحروف الأوغاريتية، ومن ثم نشأت الحاجة إلى تعليم أشخاص يعرفون دقائق هذه اللغة ليعلموها أيضاً، فعلّم الكتاب الأوغاريتيون أبناء أوغاريت مع هؤلاء المترجمين في بيوت خاصة، وكانت الأكادية هي حجر الأساس للتعلم، علماً أنها لم تكن لغةً منطوقة بين الناس، بل لغةً رسمية، فيما استخدم الأوغاريتية أهل المدينة كلغة محكية».

قاموس متعدد اللغات من أوغاريت

يتحدث كتاب "THE AKKADIAN OF UGARIT LEXICOGRAPHICAL ASPECTS" لمؤلفه الألماني " Wilfred H. van Sold" وهو باللغة الإنكليزية، ويقول: «إن تعلم الكتّاب الأكادية لم يكن في مدارس للعموم، بل في منازل خاصة، كما أن مناهج تدريس التلاميذ مشابه لنظام التدريس في بلاد الرافدين، حيث يبدؤون تعلم الحروف الأبجدية، ثم ينتقلون إلى قراءة المقاطع، وفي المرحلة الثالثة ينتقلون إلى استخدام الأكادية، في المحتوى الذي يكتبون سواء في نسخ النصوص الدينية أم الأدبية أم غيرها، وتوضح الأخطاء الكثيرة في الرقم التعليمية الصعوبة الكبيرة في تعلّم هذه اللغة على الطلاب، وكان يجري إعداد الكتبة الأوغاريتيين إعداداً خاصاً، فيتعلمون أولاً أصول الكتابة المسمارية ووجب على أغلب الطلاب تعلم كتابة الحروف الأبجدية الأوغاريتية الثلاثين، وكتابة الوثائق بالأكادية كما في الأوغاريتية، وهما اللغتان اللتان استخدمتا في المدينة، حيث استخدمت الأكادية أولاً بشكل رئيسي في المراسلات المرتبطة بالعلاقات مع المدن والدول المجاورة لـ"أوغاريت"، وهكذا فكل الاتفاقيات الموقعة بين المدينة والخارج مكتوبة بهذه اللغة، ويبدو أن السبب هو أن الأكادية وقتها، هي اللغة الدولية المعتمدة لهذا الأمر، كحال الإنكليزية هذه الأيام وفي حال وقوع خلاف تكون هي المرجع المعتمد لا الأوغاريتية المحلية».

أما مؤلف كتاب "نصوص أوغاريت" للباحث "كلود شيفر"، وهو أول من نقب في المدينة، في كتابه عنها عام 1939، فيقول: «كما وجدت القواميس في "ماري وإيبلا" فقد وجدت في الشقيقة "أوغاريت"، المدهش أن هذه القواميس ثنائية اللغة وبعضها ثلاثية ورباعية اللغات فنرى المفردات الأكادية والحورية والسومرية، وإلى جانبها المفردات الأوغاريتية، وقد ساهم مترجمو "أوغاريت" في ترجمة الأدب البابلي إلى لغتهم، هذا الأمر ساعد في استكمال عدة نصوص أدبية ضاعت رقمها في "بلاد الرافدين" و"العراق" مثل أسطورة "جلجامش" الأشهر، ومثل ملحمة الخلق "إينوما إيليش"».

قاموس يتضمن أنواع السفن في أوغاريت

ويشير المؤلف "جان نوغايرول" في كتابه "الحوليات الأثرية السورية" إلى أنه من الأمور التي ساعدت في فهم حضارة الشرق العربي، كل النصوص الدينية والأدبية التي تواجدت في مكتبات وبيوت المدينة، فهذه النصوص كتبت بشكل ثنائي اللغة، وأحياناً أعادت إنتاج هذه الملاحم فملحمة "جلجامش" التي لم يعثر في "بلاد الرافدين" على كامل أحداثها استكملت من نصوص "أوغاريت"، ويقول: «كذلك حدث الأمر مع عدة نصوص دينية وأدبية واجتماعية أخرى، وهناك عدة رقم وجدت في القصر الملكي وفي بيت "رحبانو" كتبت عليها لوائح اسمية مقارنة بين مختلف اللغات، منها مثلاً الرقيم (25-421) الذي قسم إلى ثلاثة أعمدة، كتب أولها بالسومرية والثاني بالأكادية والثالث بالأوغاريتية، كما يوجدُ رقيمٌ آخر رتبت عليه الأحرف الأوغاريتية ومقابل كل حرف المقطع الصوتي الأكادي المطابق له باللفظ، ولا شك أنه جدول وضع لخدمة المكلفين بالترجمة بين اللغتين، ولخدمة الطلاب الذين يتعلمون أصول الترجمة».

من القواميس الشهيرة، لوحٌ طيني بأبعاد كبيرة (50 سم) كتب عليه لوائح اسمية لأسماء النباتات التي تتاجر بها المدينة كأعشاب طبية، ويذكر "كلود شيفر" في كتابه ويقول: «كتب العمود الأول بالسومرية، التي لما تعد تستعمل منذ القرنين الخامس والرابع عشر قبل الميلاد إلا في أوساط نخبة الكهنة، والثاني والرابع بالبابلية (الأكادية كما عرفت لاحقاً)، التي هي لغة الدبلوماسية وقتها، وعمودان آخران فيهما الكلمات الأوغاريتية».

صورة شهيرة لإحدى المعاهدات الدولية

أيضاً هناك العديد من القواميس وفي مواضيع شتى، منها الطبية والتجارية، وفي المحصلة لقد قدمت "أوغاريت" مساهمةً فعالة في تحقيق التواصل الحضاري بين حضارتها وحضارات أخرى في منطقة الشرق العربي، وكان لإبداع الأوغاريتيين دوره الرئيسي والكبير في نقل هذه العلوم والآداب إلى الشعوب الأخرى.