بمجرد أن تقع عيناك عليها تدرك أنها صاحبة إرث عميق، فهي قرية المراعي وأرض المغارات والكهوف، وبستان الصخور التي أنتج منها الإنسان الريفي أرضاً طيبةً زرعها بما لذ وطاب.

إنها "معرين" حيث القرية التي حافظت على ريفيتها، وارتبط أهلها بها ارتباطاً عضوياً، فلا هم بارحوها ولا هي دفعتهم لذلك، وظلت بالنسبة لهم المكان المعطاء الذي يروّح عنهم ويؤمن لهم الاكتفاء الذاتي، فهم ينتجون كل حاجياتهم من أرضها ويشتهرون بتربية المواشي وخصوصاً "الماعز"، التي تجد لها المراعي الوفيرة.

دخان "معرين" بلدي ويسمى "شك البنت"، إنه من أشهى أنواع الدخان لكن كمياته قليلة

تقع "معرين" إلى الشمال الشرقي من ناحية الدالية، وهي تبتعد عن مدينة "جبلة" نحو 35كم، وترتفع عن سطح البحر أكثر من 1000 متر، إلا أن موقع القرية النائي لم يمنع أهلها من الاهتمام بالعلم والمعرفة، حيث شيدوا أول مدرسة فيها عام 1957، ويقول السيد "آصف زهرة" وهو أرشيف القرية الناطق: «جاءت المدرسة بعد عقود من التعليم عند الخطيب أو الشيخ، لتعلن عن ولادة مرحلة تعليمية جديدة بالنسبة لأبناء القرية الذين لطالما أحبوا العلم، وأصبحوا فيما بعد أطباء ومهندسين ووووو إلخ، أذكر أن كل طالب كان يذهب إلى المدرسة حاملاً معه إلى جانب دفاتره وكتبه عوداً من الحطب من أجل التدفئة».

بيت من الطين مازال مسكوناً إلى الآن

القرية السريانية الجذور والتسمية التي تعني المغارات والكهوف، تعد اسماً على مسمى حيث تعج بالنواغيص والتشكيلات الحجرية التي صنعتها الطبيعة تارة، والإنسان الذي طوعها لخدمته تارة أخرى.

سكانها الحاليون حديثو العهد بحسب السيد "زهرة" الذي يقول في حديثه لمدونة وطن "eSyria" في 28 آب 2014: «قبل حوالي 200 عام انطلق جد أهالي "معرين" من قرية "حرف متور" ومعه قطيع من المواشي، واستقر في "بيت ياشوط"، بقصد الرعي، وإلى الآن يوجد هناك مدفن يسمى مدفن "المعارنة" ويضم من ماتوا مع جدنا خلال فترة إقامته هناك».

السيد "آصف زهرة"

ويضيف "زهرة" وهو ابن المختار السابق ووالد المختار الحالي: «لم يطب لجدنا العيش كثيراً هناك خصوصاً بعد خلافه مع راع آخر؛ ما اضطره للانتقال إلى موقع يسمى "القويميعة" قرب قرية البراعم، ومنها إلى محل إقامته الدائم "معرين"؛ حيث استقر إلى جانب النبع في "معرين" الغربية، وعمل بالرعي مع أفراد أسرته وشيئاً فشيئاً بدأ الزراعة، حيث قام بتشكيل القرية آخذاً الأراضي من قريتي "خرائب سالم" و"الدالية"، حيث إن أراضي قريتنا اقتطعت من القريتين المذكورتين».

ويتابع "زهرة": «شيدت القرية بجوار نبع غربي القرية وكانت عبارة عن بيت واحد تحيط به المراعي والغابات، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتقل أحد أجدادنا للإقامة بجوار مقام الشيخ "حيدر" (بعد اكتشاف المقام)، وشكل أبناؤه فيما بعد ما يعرف حالياً باسم "معرين الشرقية"، ومع الزمن بدأ الناس يتوافدون للإقامة في القرية؛ حيث جاء آل "صقر، وعجيب" من بسنديانة، و"غانم" من جب الجراح، و"فضة" من الدالية، وانضموا إلى آل "يونس" أول عائلة سكنت هنا، وقد حافظت هذه العائلات على تعاضدها وتعاونها اجتماعياً، حيث الناس إلى الآن يساعدون بعضهم بعضاً في بناء البيوت والحصاد وووو إلخ».

خارطة معرين على غوغل

اشتهرت القرية الشاهقة بوجود الحيوانات المفترسة في محيطها، ويقول "زهرة": «حتى الآن في محيطنا العشرات منها، وقبل أيام قليلة جاء الضبع إلى القرية وقتل كلباً كانت تربيه إحدى العائلات».

تختلف "معرين" عن جميع القرى المجاورة لها؛ فهي تعتمد على تربية المواشي وليس الزراعة، وهذا لا يلغي وجود مجموعة من الأراضي المزروعة التي تم استصلاحها بصعوبة بالغة نظراً لطبيعتها الصخرية، وتمت زراعتها بالقمح والتبغ بشكل أساسي، وتقول السيدة "خطيرة عبود": «كنا ننقل القمح على ظهورنا لمسافة تزيد على 3كم، ونعتمد على فضلات المواشي كسماد عضوي ساهم في تحسين منتجنا الزراعي».

وجود المواشي أدى لاعتمادها على منتجاتها، حيث تضيف "عبود": «وجباتنا الرئيسية هي الحليب ومشتقاته من (شنكليش، وزبدة، وسمن، ...إلخ)، وحتى منتجات ذبائح المواشي من الدهن الذي كنا نذوبه ونحفظه لأكله لاحقاً، حيث كان ومازال بيت التراب الذي نسكنه براداً حقيقياً لحفظه، حيث الجدران السميكة والسقف أيضاً، ما يعطي حرارة باردة صيفاً ودافئة شتاءً».

للقرية الباردة جداً شتاءً حادثة شهيرة مع الثلج؛ حدثنا عنها السيد "آصف زهرة" قائلاً: «في العام 1992 هطلت علينا الثلوج وغطت القرية لحوالي 40 يوماً دون انقطاع، ما اضطر الدولة لكي ترمي لنا الخبز من الطائرة، وأثناء عملية الإسقاط وقعت أول دفعة خبز على أسلاك الكهرباء ما أدى لانقطاع التيار عنا شهراً كاملاً، وقد استطعنا الصمود في ظل هذه الثلوج نظراً لاعتمادنا على المؤونة».

"تبغ معرين" من أشهر أنواع الدخان والناس يأتون لشرائه من أماكن بعيدة جداً، ويقول "علي علي" من قرية "بشيلي": «دخان "معرين" بلدي ويسمى "شك البنت"، إنه من أشهى أنواع الدخان لكن كمياته قليلة».

قلة الكميات تعود إلى قلة المساحات الصالحة للزراعة بحسب "زهرة" الذي يقول: «لقد حولنا الصخور إلى أرض زراعية، ومع ذلك فإن المساحات مازالت قليلة نوعاً ما خصوصاً مع وجود أكثر من 60 دونماً من الغابات في القرية، ما يضطرنا لتنويع المزروعات لكي نحقق كفايتنا، خصوصاً أن علاقتنا مع المدينة مازالت في حدودها الدنيا ومعظم منتجاتنا محلية».

في القرية البالغ تعداد سكانها 2000 نسمة يوجد أكثر من 100 خزان ماء بحسب السيد "علي صقر" الذي يضيف: «في كل منزل يوجد خزان ماء يتم ملؤه من ماء المطر أو الينابيع الشتوية، حيث يتم ادخار الماء للصيف لاستخدامه في السقاية والشرب أحياناً، علماً أن مياه الشرب وصلت إلى القرية لكنها شحيحة؛ ما جعلنا نضطر للعودة إلى نقلها عبر الدواب من الينابيع إلى المنازل».

لمواجهة فصل الشتاء القارس كان الأهالي يبدعون الحلول ويقول "صقر" وهو راعٍ: «كنا نختار مكاناً لا تسقط الثلوج عليه، وإن سقطت تذوب بسرعة، ونبني ما يسمى (المشتاية)، وعندما تسقط الثلوج ننقل مواشينا إلى هناك للرعي والإقامة فيها، كما أننا كنا نفتح طريق الماعز في الثلج بصعوبة بالغة جداً».

تعايشت القرية مع طقسها واعتادته حتى إنها استفادت من الثلوج والبرد في تفجير الينابيع والتخلص من الحشرات التي كانت تُلاحق المواشي، حيث يشير "زهرة" إلى أن هذه الحشرات كانت تموت في فصل الشتاء من شدة البرد؛ ولولا ذلك لكانت القرية امتلأت بالحشرات وخصوصاً "البرغوت".

إن تموضع الصخور في القرية يشير إلى أن للإنسان أثراً فيها، فهي كانت يوماً ما مسكونة من قبل الرومان الذين مازالت قبورهم (النواغيص) منتشرة فيها، وكثيراً ما عثر الأهالي على لقىً أثرية وعملات رسم عليها صورة ملكة يقولون إن اسمها "هيلين"، وعلى ما يبدو أن حياة التعايش مع الصخور التي أشرفت عليها "هيلين" ستبقى في "معرين".

  • النواغيص: قبور حجرية على شكل مغارات، تحتوي على ثلاثة قبور، وهي مزخرفة بطريقة جميلة جداً.

  • المشتاية: عبارة عن غرفة من التراب يبنيها الراعي لكي يبيت فيها في فصل الشتاء أثناء عملية الرعي، وتكون بعيدة جداً عن مكان القرية.