في ظل اجتياح منازل الإسمنت لمعظم قرى الساحل السوري، تبقى البيوت الحجرية كالقلاع المحصنة تزين هذا الريف بعبقها ورائحة تراث الآباء التي تفوح منها.

هذه البيوت التي كانت يوماً ما وريثة بيوت الطين باتت اليوم موروثة من قبل بيوت الإسمنت، يقول "آصف زهرة" وهو مختار قرية "معرين": «إنها بيوت دافئة في الشتاء باردة في الصيف، انتشرت كثيراً قبل حوالي خمسين عاماً آخذة شكلاً جمالياً، حيث كانت البيوت مؤلف من مجموعة أحجار كل واحدة أشبه بالمنحوتة، لكن الأجيال الحالية لم تهتم بهذا النمط من البناء وحولت الريف إلى مكان يعج بالبيوت الإسمنتية أو ما يمكن وصفه بالبيوت المدنية الجافة التي ليس فيها روح، مبتعدة بذلك عن الحميمية الريفية والخصوصية».

كنا نبني معاً بيوت قريتنا، حيث يتعاون قرابة عشرين إلى ثلاثين شخصاً؛ فمنهم من يقطع الأحجار وبعضهم يبنونها، في حين يحضر البقية من أجل السقف

هذه البيوت لا تصنع أحجارها صناعة كما هو سائد الآن، وإنما يتم اقتلاعها من باطن الأرض كما يقول مختار بطموش "محمد يوسف" وهو واحد من البنّائين المعروفين في هذا المجال، ويضيف "يوسف" في حديثه لمدونة وطن "eSyria" في 8 كانون الثاني 2015: «إنها مهنة شاقة جداً وتطلب جهداً عضلياً وأسلوباً فنياً من الشخص الذي يعمل بها، حيث عليه أن يصنع أشكالاً بالأحجار ويحرص على تهذيبها بشكل يليق بالمنزل وشكله الجمالي».

من بناء مختار بطموش

ويتابع "يوسف" متحدثاً عن مراحل البناء وصعوباته: «في البداية نقوم باقتلاع الأحجار من الأرض وتقطيعها يدوياً بواسطة (المهدة) لكي تصبح بأحجام يمكن التعامل معها بسهولة، ومن ثم يتم تجميلها بواسطة الأدوات اليدوية "الشاقوف، الكاسورة"، بعض البنائين يصممون الأحجار بطريقة متساوية متشابهة الشكل والحجم، وبعضهم الآخر يصممونها بأحجام مختلفة وأشكال متعددة نظراً للسهولة والسرعة، وهذا الأمر مرتبط بقدرة صاحب البيت المزمع تشييده على دفع التكلفة ورغبته، حيث إن الأحجار المتساوية الحجم تطلب جهداً مضاعفاً وعناء لا يستهان به علما أن طول قطعة الحجر الجاهزة للبناء يجب ألا يقل عن 20سم، ولا يزيد على 50سم، أما غير ذلك فتكون خارج المعايير وغير حسنة المظهر».

في السابق لم يكن هناك مهندسون يضعون مخططات هندسية للبناء، وإنما كان البناء من يتكفل بالتخطيط حيث يصمم المنزل بناء على الشكل الذي يصفه له صاحبه، ويضيف إليه لمساته الخاصة، هذا ما كان يفعله العم "يوسف يوسف" وهو من أهم بنائي الحجر في قرية "بطموش"، يقول "يوسف": «يبنى المنزل صفاً صفاً في كل جدار، وتربط الجدران بعضها ببعض بواسطة الإسمنت فقط من دون أعمدة أو حديد، حيث يشيد البيت عادة على منطقة صلبة وأغلب الأحيان تكون صخرة مسطحة ضخمة، ويتم وضع الأحجار كبيرة الحجم في الصفوف الأولى والصغيرة فوقها وذلك في البيوت مختلفة أحجام الأحجار، حيث يصل ارتفاع المنزل إلى ثلاثة أمتار ومساحة الغرفة إلى 16 متراً أحياناً، فيما يكون السقف من الطين أحياناً ومن الإسمنت أحياناً أخرى».

خزان حجري

وصناعة السقوف الطينية في ”بطموش" تسمى "تقليداً" حيث يقال قُلِّدَ المنزل بالطين، وطريقة التقليد ببساطة حسب ما يقول السيد "علي صقر": «يكون أساس السقف من خشب العزر الذي يكون أشبه بالجسر الذي يوضع مستنداً على الساموك، وفوقه نضع بشكل تصالبي خشباً نسميه "الفرود"، وفوقها نأتي بما يسمى "القصع" نمده، وفوقه ننشر ورق الشربين ونمده على كامل مساحة السقف وندوسه بأقدامنا لكي يلتحم، ومن ثم نأتي بالتراب ونمده على الشربين حتى تصل سماكته إلى 50سم ونقوم بعرجلته بواسطة "المعرجلينة" (تشبه المدحلة مصنوعة من الحجر)، ومن ثم نضع تراباً مخصصاً للطينة لونه أبيض ونأتي به من خارج القرية، أحياناً كان السقف يتشقق وكنا نرممه».

الإبداع في هذه البيوت يكمن في قدرتها على البقاء من دون أن يكون فيها أعمدة أو أساسات، فالسيد "ياسين سليطين" من قرية "خرائب سالم" لديه منزل من هذا النوع عمره إلى الآن أكثر من 30 عاماً وسقفه من الإسمنت المسلح، وبحسب "سليطين" فإن منزله متين جداً ويصمد لسنوات طويلة قادمة.

مختار بطموش

اللافت في هذه البيوت هو "عتبة" أبوابها ونوافذها التي تعلق في الهواء بلا سند، وهي نوعان يحدثنا عنهما المختار "يوسف": «عملية تثبيت العتبة تسمى عقداً، وهي عملية فيها شيء من الرياضيات، حيث تلتحم الأحجار مع بعضها بعضاً بطريقة القفل على بعضها بعضاً، ومنهم من يقفل الأحجار بطريقة الحصر وتكون رباعية، ومنهم من يقفلها ثلاثية حيث تكون حجرة الوسط بعكس حجرتي الجوانب، وتبدو الحجرة الثالثة وكأنها تجلس بين أحضان حجرتي الجوانب».

كل الأحجار في البرية صالحة للاستخدام لكن شريطة ألا تكون متعرضة كثيراً للعوامل الطبيعية خصوصاً الأمطار المباشرة وأشعة الشمس، ما يؤدي إلى ضعف الحجرة وتشققها، لذلك فالأحجار المقتلعة من باطن الأرض هي الأفضل، وهي تعمر لمدة طويلة من الزمن، وأفضلها بحسب المختار "يوسف" الأحجار ذات اللون الأزرق وهي رغم قساوتها تسهل على البناء منحها الشكل الذي يريده، أما الأحجار ذات اللون الأبيض فهي الأكثر جمالية.

أفضل معلم بناء لا يمكنه أن يقطع أكثر من 50 حجرة في اليوم، ومن ناحية البناء فليس سهلاً أيضاً، وقد عرف عن "يوسف يوسف" سرعته في البناء حيث كان أسرع بنّاء في القرية؛ حيث يبني ما يزيد على 50 حجرة في اليوم بمفرده.

لكن بناء هذا النوع من البيوت كان تعاونياً في أغلب الأحيان خصوصاً في "تقليد" السقف، يقول مختار "بطموش": «كنا نبني معاً بيوت قريتنا، حيث يتعاون قرابة عشرين إلى ثلاثين شخصاً؛ فمنهم من يقطع الأحجار وبعضهم يبنونها، في حين يحضر البقية من أجل السقف».

يذكر أن بيوت الحجر تختلف عن بيوت الطين التي كانت تبنى بطرائق مختلفة وبأنواع أخرى من الأحجار، وحتى بأحجام وارتفاعات مختلفة.